شهد فجر السابع من تشرين الأول 2023 عملية عسكرية غير مسبوقة نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية، تمثلت بكسر الجدار الفاصل، ونجاح المقاومين بعبور نقاط مراقبة جيش العدو الإسرائيلي لقطاع غزة، وتمكنت من السيطرة عسكرياً وميدانياً على المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية الواقعة ضمن غلاف غزة، وحتى البعيدة عنها.
عملية «طوفان الأقصى» تمثلت بعبور الآلاف من المقاومين الأشاوس التابعين لفصائل المقاومة الفلسطينية، إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، في خطوة تاريخية، قلبت موازين القوى وأعادت خلط الأوراق في كل المنطقة، ضمن خطة عسكرية مدروسة بعناية فائقة، ومتقنة التنفيذ بحرفية عالية.
وهنا لابد لنا من التوقف عند أهم النقاط التي أسهمت بنجاح عملية العبور الفلسطيني:
أولاً، عنصر المفاجأة، وقد تحقق بشكل كامل ومثير، فقد انكشف المستوى الأمني وكذلك العسكري والسياسي والإداري الهش لدى العدو الإسرائيلي، وخصوصاً بعدما اختارت المقاومة الفلسطينية توقيتاً إسرائيلياً قاتلاً، وهو عيد يهودي وفي يوم السبت، كما استفادت المقاومة الفلسطينية من انشغال الولايات المتحدة بمواجهة روسيا في أوكرانيا، وإشراكها دول حلف شمال الأطلسي بهذه الحرب، وكذلك تراجع اهتمامها بالتفاصيل الفلسطينية وبمنطقة الشرق الأوسط.
ثانياً، عنصر الصدمة من سرعة التقدم الفلسطيني، والذي سبب صدمة في إسرائيل على جميع مستوياتها، ولم تستطع حكومة بنيامين نتنياهو (الإسرائيلية) من استيعاب ما حصل حتى بعد مرور وقت طويل، وهذا العنصر تسبب في حالة من الهلع والهروب الكبير من المستوطنات القريبة من محيط غزة، وهو الأمر الذي ظهر على الفضائيات مباشرة.
ثالثاً، تسجيل الفشل الاستخباراتي في جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية «أمان»، في توقع أو رصد مثل هذا العبور الفلسطيني، وهذا الفشل الإستخباراتي ينسحب على إخفاق ذريع لجهاز الأمن «الشاباك» ومعه «الموساد» في استشراف نيات الفلسطينيين، الأمر الذي يسجل انتصاراً للقدرة الفلسطينية على تمويه وإخفاء مخطط العبور عن أعين العدو الإسرائيلي، الأمر الذي شكل ضربة قاتلة لأجهزة المخابرات والرصد الإسرائيلي الأميركي، وهي الأقسى منذ نشأة الكيان الغاصب لفلسطين في العام 1948.
رابعاً، انهيار العقيدة القتالية لدى الجندي الإسرائيلي، وانكشاف الصورة الحقيقية للجيش الذي لا يقهر، إذ لم تكن إسرائيل حتى في أحلامها تتصور مشهد آلياتها وهي تحترق ومستوطنوها يختبئون في حاويات النفايات، ولا مشهد الأسرى من الجنود والمستوطنين بالعشرات وكذلك مشاهد الهروب الجماعي، وكلها تُشكل إذلالاً وكسراً للكبرياء ولفائض القوة بالتفوق الإسرائيلي المتعجرف، وهذا أمر ستكون له تداعيات إستراتيجية كبرى أقلها تبدد ثقة الإسرائيليين بكيانهم المصطنع، إضافة إلى اهتزاز ثقة المستثمرين من العرب المطبعين والأجانب بعدما تحطمت صورة إسرائيل كدولة آمنة للسياحة والاستثمار والإقامة.
مشاهد العبور الفلسطيني الباهرة في تشرين الأول 2023 ذكرتنا بالعبور التاريخي للجيش المصري لخط بارليف الإسرائيلي المحصّن على الضفة الشرقية من قناة السويس أيضاً في تشرين الأول من العام 1973، كما أن عملية طوفان الأقصى جاءت لرد الصاع صاعين على عنجهية العدو واستفزاز المستوطنين المتكرر لمشاعر المسلمين والمسيحيين في الأقصى وفي القدس الشريف، كما أن عملية طوفان الأقصى أثبتت للعالم مقولة الأمين العام لحزب اللـه حسن نصر اللـه أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وأيضاً لتؤكد الشعار الذي أطلقة الأمين العام السابق لحزب اللـه عباس الموسوي وبما لا يقبل الشك بأن إسرائيل سقطت.
عملية «طوفان الأقصى» سيسجلها التاريخ بأحرف من ذهب لن يمحوها الزمن، لأنها ستبقى محفورة في ذاكرة الأجيال الفلسطينية والعربية المؤمنة بمقاومة ودحر الاحتلال الإسرائيلي، عن كامل فلسطين من النهر إلى البحر وتكون عاصمتها القدس الشريف مهما بلغت التضحيات ومهما طال الزمن.
إن عملية العبور الفلسطيني لكل النقاط والمراكز العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى مشاهد أسر واعتقال المئات من جنود وضباط جيش العدو الإسرائيلي والاستيلاء على دبابات ميركافا الجيل الخامس التي تعتبر درة الصناعة العسكرية الإسرائيلية، والتي ملأت الشاشات في مختلف أنحاء العالم وغيرها من المشاهد، أعادت كتابة التاريخ العربي من جديد وبعثت برسالة مباشرة للدول العربية التي تخلت عن شرف الأمة فلسطين وعن أقصاها وعن قدسها.
أنها رسالة للدول العربية التي فضلت تطبيع العلاقات مع العدو المحتل والاعتراف به رسمياً، تلك الرسالة تقول إن الشعب الفلسطيني، أقسم على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أينما وجد على أرض فلسطين، وتعهّد برفض تطبيعكم واعترافكم بهذا الكيان الغاصب، وأن شعب فلسطين له كرامته وعزته وعنفوانه الوطني، ولن يرضى بالفتات الذي منّ عليكم به الإسرائيلي والأميركي، ولن يرضى بتحويل القضية الفلسطينية، من قضية مركزية إلى قضية تحسين ظروف حياته مقابل تطبيعكم واعترافكم المذل، أنها رسالة تقول أيها المطبعون أنكم في الجانب الخطأ من التاريخ، وأنكم في الجانب المعادي للموقف الحق، والمعادي لمشاعر ولأماني شعوبكم.
لا غلو بالقول إن عملية العبور الفلسطيني شكلت محطة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لأن الصدمة والدهشة والإرباك بدت واضحة لدى الدول العربية المطبعة التي سارعت إلى إصدار بيانات تدعو إلى وقف القتال وحماية المستوطنين الإسرائيليين وصون حقوقهم المدنية، وكأن ما ارتكبته إسرائيل وما يرتكبه الصهاينة بحق شعب فلسطين من قتل وقهر وتنكيل وحصار وتجويع، أمر لا يستدعي المطالبة بصون الحقوق الإنسانية والمدنية والتاريخية للشعب الفلسطيني!
إن عملية طوفان الأقصى ليست سوى نموذج أو بروفا مصغرة للطوفان الجارف الذي سيسفر عنه تحرير كامل فلسطين، وإن مشاهد هروب المستوطنين مذعورين من مستوطنات غلاف غزة، هو نسخة مصغرة عن مشهد الهروب الجماعي القادم من المدن الرئيسية في عموم فلسطين المحتلة، وإن مشاهد إذلال الجيش الإسرائيلي وتمريغ أنف ضباطه المتعجرفين المجرمين بالتراب، سوف تتكرر وفق معادلات صراع جديدة، لم تعد بعيدة بل أقرب مما يتخيله أعداء فلسطين.
بين «طوفان الأقصى» والطوفان الجارف، يجتهد البعض في صرف أو تسييل نتائج عملية طوفان الأقصى، وهنا لابد من القول إن من ينظر إلى تعاطف وتأييد الشعب العربي قاطبة لعملية طوفان الأقصى وخاصة شعوب الدول المطبعة مع إسرائيل، يدرك تماماً أن طوفان الأقصى سيولد طوفاناً جارفاً لكل محطات الذل والهوان العربي، وأن زمن التسويات والتطبيع على حساب فلسطين، بدءاً من كامب ديفيد وأوسلو واتفاق وادي عربة، قد ولى إلى غير رجعة.
صحيح أن نتائج العبور الفلسطيني جاءت لتؤكد أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأن المقاومة هي السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق العربية المسلوبة، لكن علينا تسييل النتائج لمصلحة الأمة العربية، وليس لمصلحة فصيل بحد ذاته، تأكيداً على أن فلسطين هي القضية المركزية لكل العرب، بعدما أضحى تحرير فلسطين من الاحتلال حقيقة، وأن الطوفان الجارف القادم، سيسفر عن تحرير كامل الجولان السوري من الاحتلال الإسرائيلي ومعه شمال سورية من الاحتلالين الأميركي والتركي، وهذا صار واقعاً لا محالة، وأن فجراً جديداً من الانتصارات وتحرير الأمة العربية من الإذلال والهيمنة قد ولد، وأن ما بعد السابع من تشرين الأول 2023 لن يكون كما قبله.
المصدر: بريد الموقع