هناك أشياء لا تغادر ذاكرة الحسين من السنوات الأولى لهجرته إلى بلجيكا، البلد الذي قضى فيه نصف قرن من دون أن يصير موطنه. بقي الحسين ابن المغرب. يردد أنه كان محظوظاً جداً حين أتى، في ستينيات القرن الماضي. يقول إن كل الفضل يعود لـ «الوسامة»، تلك التي جعلته من القلة الذين حظوا بحبيبة بلجيكية مبكراً. بفضلها كان يدخل الحانات والمقاهي، يتجول بحرية افتقدها رفاقه عمال المناجم، حينما كانت تقابلهم لوحة مشؤومة على واجهات تلك الأماكن، يتذكر تماما عبارتها: «ممنوع دخول الكلاب والمغاربة والإيطاليين».
ذلك التاريخ بات خلف الأفق المنظور لمن يشتكون الآن من فشل سياسات «الاندماج»، ملقين باللوم على الأقلية المسلمة التي أنجبت جيلاً ثالثاً عاش تحت السقف البلجيكي. كلما حلّت مصيبة، تمت بصلة قريبة أو بعيدة لتلك الأقلية، كما الحال مع هجمات بروكسل الإرهابية، يتم استنهاض السجال حول «الاندماج»، بعدما أهمل على علاته المتراكمة طوال عقود.
الحسين كان نموذجاً مثالياً لمن هم جاهزون للاندماج، أو بالأحرى كانوا بأمسّ الحاجة له لكونه مصلحة أكيدة لهم. لكنه النموذج الذي فوّتت الدولة فرصة إدماجه، أو بكلمات أدق: خلق المكان له كمواطن فيها.
بدأت الحكاية حينما وقع المغرب مع بلجيكا في العام 1964 اتفاقية لاستقدام العمال، تحديداً لسد النقص في المناجم. لم تكن ذكريات أبيض وأسود كما يرويها الحسين. كانوا ينزلون إلى المناجم باكراً، ليخرجوا بعد مغيب الشمس إلى الحانات والسهر مع أصحابهم الإيطاليين ومن كانوا يستهوونهم. يقول عنها إنها كانت «الأخوّة الحقيقية» التي جمعت عمال المناجم. كل يوم الشيء نفسه، لكن كل يوم كان «جميلا» في البلدة البلجيكية في الشمال الفلمنكي الناطق بالهولندية.
مع ذلك، حتى الآن لا يتحدث سوى لغة البلد إلا بالحد الأدنى. لم تكن المناجم بحاجة لطليقي اللسان، ولا للشعراء بطبيعة الحال، كي تنفق من الوقت والمال لتعليم اللغة كما ينبغي. كل ما كانت تريده هو سواعد قوية وأنفاس جبارة كي تعمل ساعات طويلة تستنشق غبار الفحم. ذلك الإرث يلازم الحسين الذي يعيش برئة معطوبة، يجرجر معها صحته بعدما تخطى السبعين من عمره.حين يذكر المغاربة المهاجرون وطنهم الأول يقولون «البلاد»، الوصف الذي ورثه أبناؤهم كذلك. لا لغتهم الدارجة غادرتهم ولا «البلاد» كانت بعيدة بفعل إخفاق «سياسة الاندماج»، هذا إذا كانت موجودة فعلاً حينما تم استقدامهم. انطفأت سنوات النشوة الأولى، ليعود الحسين إلى بيت الهوية، متزوجاً ابنة «البلاد» بعد زواجه الأول بابنة المهجر.
لا يحتاج الحسين إلى رواية تلك الحكاية الدالّة عن علاقته بالمغرب، فمن يعرفونه يحفظونها في سجل ذاكرتهم عن رجل خفيف الظل. ربح الحسين مرة «اللوتو»، لكنه لم يحتر طويلا بما يفعله بالمبلغ المحترم. اشترى سيارة «فولغا» بمحرك جبار، وصلها بعربة كبيرة حزم فيها كل ما يمكن شراؤه، ثم… إلى البلاد. تبدد المال، لكن الرحلة الدورية استمرت. كان يجمع ويشتري كل سنة ما يتاح من أثاث وأجهزة مستخدمة، ويدير محرك «الفولغا» إلى بلدته في الجنوب المغربي. لم يكن حالة فريدة، فهذه الرحلة تشكل ما يشبه وحدة حال بين عشرات آلاف المهاجرين المغاربة. الجيل الأول يريدها بتصميم، والأجيال الأخرى تسير خلفه في قاطرة إجبارية منذ الصغر.
يتم استعداء فشل «سياسة الاندماج» الآن مع الصدمة الكبيرة التي أحدثتها هجمات بروكسل. يوجّه اللوم إلى أوساط المهاجرين المغاربة، المسلمين قبل ذلك لكونها الهوية «الإشكالية» هنا، إن لم يكن صراحة ففي التصريحات والبيانات.
يجري الحديث كما لو أن القضية تدور حول تركيبة هوية مضادة للاندماج. هنا يتم القفز عن قاعدة حاكمة: جاءت الهجرة المغربية بناءً على طلب الدولة البلجيكية، ما يعني أن البداهة تقتضي وجود مشروع وطني لإدماج عشرات آلاف المهاجرين. ليس لسواد عيون المهاجرين بل كحاجة وطنية قبل ذلك. مشروع عام كهذا، أنفقت عليه أموال طائلة وفق الإعلانات الرسمية، يفترض أن يكون من غير المسموح فشله. كان يفترض أن يراجع بعقلية «ممنوع الفشل»، أما إذا أخفق أو فشل فالمسؤولية يتحملها من أهمله وقاده إلى ذلك المصير، كما الحل مع محاكمة أي مشروع عام خططت له الدولة.
لم تجر مراجعة جدية، جذرية ومسؤولة، لمشروع الاندماج. مع ذلك، فأعراض انتكاساته واضحة للعيان على الضفتين. الاندماج يحتاج أيضاً إلى يد أخرى ليصفق، ولا يمكن أن يكون من جانب واحد.
قبل بضع سنوات خرجت مؤسسة التلفزة الوطنية الفلمنكية بتوصيات لافتة، تعكس اعترافاً نادراً بفشل الضفة الأخرى. طلبت إدارتها العمل على زيادة حضور الوجوه من أصول مهاجرة على الشاشة. إحصائياتها كانت تقول إن حضورهم ضئيل جداً على الشاشة الوطنية، بما يجعلها لا تعكس صورة مجتمع المشاهدين الذين يتابعونها. بمعنى أدق، إنها هكذا ليست «شاشاتهم». يحدث ذلك رغم أن أبناء المهاجرين درسوا وتدربوا في جامعات الدولة ومؤسساتها، ليحصّلوا بذلك «المهارات المعيارية» بما لا يترك سببا للتشكيك في قدراتها.
لماذا لا يأملون كثيرا صعوداً لسلّم التوظيف ومراتبه؟ الجواب تحمله سيدة بلجيكية، متزوجة من مهاجر عربي صار مواطناً. مع أنهم من عائلة يفترض أنها خارج تلك المحددات، لكونها مسيحية، تقول إنها تدرك تماما أن ابنتها الصغيرة «ستكون أمام مستقبلها حظوظ أقل بكثير من زميلاتها اللواتي لديهن اسم عائلة بلجيكي وليس عربيا». حتما القضية لا تتعلق بالعنصرية، كمعيار واحد ومركّز، بل بمنسوب منها يصير من طبيعة الحال.
هناك مجتمعات أخرى غير مندمجة، بالمعيار نفسه، لكنهم «لا يفجرون أنفسهم». رغم كل ذلك التاريخ من التراكم والتشابك، يستحضر ملف الاندماج إلى نقاش التطرف والإرهاب. هذا الالتفاف يغفل عن عمد أن المشترك الأكيد للمشتبه بهم والمتورطين بتهم «الإرهاب» في مكان آخر تماماً. غالبيتهم الساحقة لديها سجل إجرامي معروف للسلطات، أما دخول مشاكل «الاندماج» على الخط، إن حل على نحو عرضي، فمسؤولية الدولة أولاً وأخيراً، بعدما تركت شباناً من مواطنيها في يأس البطالة والتهميش.
ليس هذا فقط. الأهم من كل ذلك، قبله وبعده، هناك تنظيم «إرهاب» دولي، لولاه لما كانت مشاكل مجرمين منفردين قد دخلت سياق الهجمات الإرهابية. أين كانت الدولة؟ هذا ما تردده الآن عائلات عديدة عرفت أن أبناءها على وشك الالتحاق بتنظيم «داعش»، لكنها يئست تماما من كثرة ما دعت السلطات لإيقافهم دون جدوى.
قبل عامين، خلال الاحتفال بمرور خمسين سنة على الهجرة المغربية إلى بلجيكا، قال رئيس الوزراء السابق إليو دي ريبو إن «بلجيكا مدينة بجزء من ازدهارها لآلاف العمال القادمين من المغرب، من وهبوا عرقهم وحياتهم لخدمة هذه البلاد في الورش والمناجم والمصانع». كلما حصلت كارثة تخرج سيرة مشاكل الاندماج، لكنها نادرا جدا ما تخرج من هذا الباب.