في ملعب الراية لا تطحن الكسَّارة الحجارة فقط، بل الأيام والذكريات أيضاً. هنا، حقبة طويت قبل أيام، تاركةً خلفها ألماً صلفاً كالإسمنت الذي سيكبر فوق الملعب. هذا ما يعبّر عنه جيران «الراية» وروّاده الذين اختزنوا فيه ذكريات طفولتهم وفتوّتهم.
الأرض لمن… يشتريها، ولأصحابها الحق باستخدامها كيفما يشاؤون، ساعة يشاؤون، لكن خبر «رحيل» ملعب الراية لم يمرّ خفيفاً على جمهور المقاومة. لم يخف هؤلاء حسرتهم على مكان عاشوا فيه محطات حساسة من حياتهم ومن تاريخ المقاومة. عبّروا عن انفعالاتهم في كلّ مكان، وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي حيث يسهل طرح الآراء، ولو استناداً الى شائعات مغلوطة. نقرأ لأحدهم: «لقد جوّفوا قلبي، جعلوه حطباً»، قبل أن يتحوّل من لغة شعرية الى شعبوية، يتهم فيها أصحاب الأرض بالسرقة والاستغلال! فهل هذا صحيح؟ وهل هذه هي المرة الأولى يغيب فيها مكان مماثل من ذاكرة جمهور المقاومة؟
الحقيقة معاكسة تماماً: لم تترسّخ أمكنة المقاومة في الذاكرة إلا مع كلّ احتفال كان حزب الله يقيمه فيها. حتى باتت كلّ أرض يحيي فيها حزب الله احتفالاً أو ذكرى هي ملعب الراية.
ذات نصر كان مهرجان «النصر الإلهي» بعد حرب تموز في 22 أيلول، الذي أقيم في ساحة على أرض قرب مؤسسة الميكانيك في الحدث. فوق هذه الأرض كان الظهور العلني الأول للسيد حسن نصرالله بعد عدوان تموز 2006، الذي شهد جملته الخالدة: «بدأ زمن الانتصارات وولى زمن الهزائم»، لكن هذه الأرض لم تعد موجودة. كبرت المجمعات السكنية فوقها، من دون أن يعترض أحد.
وفي زمن ليس بعيداً، اختلفت الأمكنة، وتعدّدت ساحات الاحتفالات. في باحة الشورى، أو المربع الأمني، أقيمت في نهاية التسعينيات أبرز مناسبات حزب الله. في أيلول 1997، بعد عملية للمقاومة في جبل الرفيع استشهد فيها هادي حسن نصر الله وهيثم مغنية وعلي كوثراني، نُصبت في باحة الشورى خيمة العزاء سبعة أيام. وفي الباحة نفسها أقيم مهرجان استقبال أسرى معتقل الخيام إثر تحريرهم في 23 أيار 2000. ليل ذلك اليوم، جلس السيّد نصر الله بين الأهالي في الباحة، وانتظروا جميعاً حتى الفجر وصول الأسرى إلى بيروت. اما آخر الاحتفالات هناك، فكان بإعادة بناء الضاحية الجنوبية بعد عدوان تموز. كذلك كانت باحة الإمداد في بئر العبد، احدى ساحات الاحتفالات، والشارع الرئيسي في الحي ذاته.
ليست المرة الأولى يغيب فيها مكان مماثل من ذاكرة جمهور المقاومة
«الرجاء من أصحاب السيارات المتوقفة عند جانبَي الطريق إزالتها من مكانها فوراً»؛ لم يعد هذا الصوت يصدح في هذه الباحات وقربها. المسألة عادية جداً، فالحزب اعتاد تغيير أمكنة احتفالاته منذ تأسيسه عام 1982. والمكان «الرسمي» الوحيد لحزب الله هو مجمع سيد الشهداء في الرويس. ملعب الراية مشابه لغيره. جاء اليوم الذي ينتهي فيه زمنه مع الاحتفالات بعدما قرّر أصحابه استثماره.
في عام 1979، كان الملعب بستان ليمون مع بضع شجيرات زيتون. لا أبنية قريبة حوله، ولا مجمعات سكنية، ما جعله متنفساً لأطفال المنطقة. وتعود ملكية الأرض أساساً إلى مؤسسة التعاضد للرتباء والأفراد التابعة لوزارة الدفاع. وقد عرضت للبيع في مزاد علني عام 1983، وفاز بها المهندس ملحم كسرواني، ولكن قبل أن يسجّلها باسمه، أوقفته المؤسسة العسكرية لوجود خلافات على عملية البيع مع قيادة الجيش.
مرت السنون والأيام وأورث ملحم الأرض الى ابنه عمر. وظلت الأرض بستاناً حتى عام 1987، ثم ملعباً دون سور محاطاً بأشجار قليلة بين عامي 1988-1989، ومحاطاً بدوره بجمهور حزب الله الذين بدأوا بالسكن على مداره من الجهات الأربع.
منذذاك، تحوّل ملعباً رملياً تقام عليه مباريات بين أهالي المنطقة، ودورات تنظمها التعبئة الرياضية… وصولاً الى بدايات التسعينيات، حين بدأ يستقبل مسيرات العاشر من محرم التي ينظمها حزب الله سنوياً، وكانت سابقاً تنتهي بإقامة صلاة الظهر بإمامة السيد نصرالله.
احتضن الملعب إحتفالات ثورية، ومهرجانات، وإحياء لمناسبات، لعل أبرزها الذكرى الأولى لانطلاقة الانتفاضة في 29-9-2001، ومسيرة الأكفان في 21-5-2004، ضد الإعتداء على مقامي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في العراق. وطيلة هذه الفترة كانت الأرض باسم عمر كسرواني، الى أن اشترتها منه شركة الأمير للهندسة والبناء عام 2006، رغم استمرار المشكلة مع الجيش.
لم يتغير أي شيء بالنسبة لحزب الله، ظل الملعب يحتضن المهرجانات على أنواعها. ما تغير عام 2015 هو نجاح أصحاب الأرض في حل مشكلتهم مع الجيش. انتهى النزاع بالتراضي. سُجلت الأرض باسم شركة الأمير التي سلّمت في أرض كانوا يمتلكونها في الوروار الى المؤسسة العسكرية.
انتقلت ملكية 14324 متراً مربعاً اليهم، وعلى طول الفترة الممتدة من امتلاكهم لها يؤكّد أحد مالكيها أن الشركة لم تطلب شيئاً من حزب الله بل قدّمتها على مدى سنين للاحتفالات. كان تقديمها لوجه الله إذ «إننا من شعب المقاومة». ورغم ذلك، كان حزب الله يأخذ على طول الفترة الماضية جوازاً شرعياً من أصحاب الأرض للتصرف فيها، إذناً لإقامة الاحتفالات، ولبناء المنصة التي أطلَّ منها السيد مراراً.
أدار المالكون أذناً «صمّاء» للاتهامات على مواقع التواصل. يؤكدون أنهم عرضوا بيع الأرض على الحزب أكثر من مرة، وبأكثر من سعر، قبل أن تحل المشكلة مع الجيش وبعدها، إلا أن الحزب رفض.
اقترح بعض النشطاء على مواقع التواصل الإجتماعي شراء بلدية حارة حريك العقار، وتحويله الى حديقة عامة تصبح متنفساً لأهل المنطقة. تصعب هذه المهمة على البلدية التي يؤكد نائب رئيسها أحمد حاطوم أن إمكاناتها المادية تمنعها من امتلاك عقار تصل قيمته الى حوالي 40 مليون دولار. ويضيف: «ان تأمين حدائق عامة يأتي في إطار الترف الفكري، إذ ان البلدية تعمل بخطة استراتيجية، أولوياتها تأمين فرص عمل ورعاية صحية للأهالي».
سيكتسب ملعب الراية معنى جديداً، وستبني الشركة مكانه مجمعاً تجارياً وسكنياً. أما الإحتفالات والمسيرات فمستمرة، ولن تعدم وجود ساحات أخرى.