تشهد جبهة ساحة قطاع غزة جملة متغيّرات، وثوابت، ميّزت الايام السابقة عمّا سبقها، إلا أنّ أهمّ ما فيها، ثلاثة عوامل، من شأنها أن تؤثّر على مسار الأمور وعلى الوضع الميداني وتموضعات الطرفين والمتدخلين في الحرب:
أوّلاً: استمرار الاستنزاف والإصابات لدى الجيش الصهيوني، يومياً، مع أعداد معتدّ بها من الإصابات، قتلى وجرحى. وهو واقع من شأنه أن يضغط على الجمهور في الداخل الصهيوني، وعلى المؤسّستين العسكرية والسياسية، على السواء.
يعدّ هذا العامل، في ظلّ صعوبة تحقيق نتائج إضافية، في معظمها تكتيكية، تدفع حركة حماس والفصائل الرديفة إلى التراجع عن مواقفها، ورفع الراية البيضاء. والخسائر لدى “إسرائيل”، بلا أثمان مؤثّرة على الموقف لدى الطرف الآخر، هي وصفة التراجع عن السقوف العالية والرهانات، التي ما زالت إلى الآن، تتحكّم إلى حدّ معتدّ به، بالموقف الإسرائيلي من الطروحات الموجودة على طاولة القرار، غير مواصلة التصعيد العسكري، و”المزيد من الشيء نفسه”.
ثانياً: تواصل الحديث عن ضرورة الانتقال الى المرحلة الثالثة من الحرب، أي الانتقال من مرحلة القتال عالي الكثافة، إلى مرحلة قتال منخفض الكثافة.
ويخطِّط الكيان الصهيوني، وفقاً لخطة المراحل التي قيل عنها الكثير، إلى سحب ما أمكن من قوّاته إلى حدود قطاع غزة، مع الإبقاء على ما يؤمِّن له السيطرة بشكل واسع نسبياً، على شمال القطاع، مع إبقاء المناطق التي لم يسيطر عليها ميدانياً، محاصرة ومكشوفة و”غبّ طلب” أيّ تحرُّك ميداني وتوغُّلات، قد تستدعيها المعلومات الاستخبارية. يضاف إلى ذلك قطع قطاع غزة نصفين، يفصل شماله عن جنوبه، دون السماح للسكّان بالعودة إلى الشمال، والانتقال من أماكن تهجيرهم في غرب القطاع، إلى الغرب من مدينة خان يونس ومخيّمها.
يستفيد الجيش الصهيوني في هذه المرحلة، بالعمل على تسريح عدد كبير من الاحتياط، الأمر الذي يحيّد عامل ضغط إقتصادي كبير جداً على صانع القرار، بما يتعلّق باستمرار القتال عالي الكثافة، لكن ما يُثقِل على صانع القرار في تل أبيب، أن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في سياق الحرب، يجب أن يكون بناءً على إنهاء المرحلة التي تسبق، بنجاح مع تحقيق الأهداف المرسومة لهذه المرحلة، الأمر الذي يُمكِّن من الإنتقال إلى المرحلة التي تلي.
لكن كما يبدو، بل هو الواقع، لم يُنهِ الإسرائيلي المرحلة الثانية، بل لا يبدو أنّه قادر على إنهائها، كي يتمكّن من الإنتقال إلى الثالثة، رغم أنّ المعطى الميداني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، يدفع ويضغط، نحو الانتقال إلى الثالثة، حتى من دون إنجاز أيٍّ من أهداف المرحلة الثانية، وفي مقدمتها الأسرى، وقتل قادة حماس الكبار أو ترحيلهم..
ثالثاً: هناك تجاذب وصراع على مستوى صنع القرار: صهيوني – صهيوني، وصهيوني – أميركي، مقابل حركة حماس، ليس وحسب بما يتعلّق باليوم الذي يلي الحرب، الذي يريده الأمريكي والإسرائيلي خالٍ من حماس، بل إمكان الانتقال من مرحلة إلى أخرى، مع الحفاظ على قدرة ميدانية لمعاودة القتال عالي الكثافة، عندما ولمّا، ترى إسرائيل مصلحة لها في ذلك.
المفاوضات بين الهدن وانهاء العدوان
من هنا، المعركة تخاض أيضاً في الجانب التفاوضي، غير المباشر، بين الكيان الصهيوني وحماس: بين مطلب هُدَن مع إغراءات، وبين مطلب وقف دائم لإطلاق النار، مع مطالب أخرى، تصرّ حماس على التوصُّل إليها في سياق أي صفقة تبادل أسرى جديدة.
الواضح من طرح الهُدَن، هو سلب حماس ورقة الأسرى، التي يدرك الكيان أنّها ستكون ورقة ضغط قويّة جداً في أيٍّ من المراحل المقبلة، سواء في مراحل الحرب نفسها، أو التي تليها، وتحديداً في مواجهة الترتيبات التي يُراد ويُعمَل على بلورتها لقطاع غزة، في اليوم الذي يلي.
لكن في المدى المنظور والمباشر، التجاذب بين طرحين، هو الأكثر تفعيلاً من الجانبين في هذه المرحلة: هُدَن أو وقف دائم لإطلاق النار. ويبدو أنّ حركة حماس مُدرِكة “للفخ” المراد إيقاعها به، وهي ترفض صفقة تبادل، إن اقتصر الأمر على هُدَن، مهما كانت طويلة نسبياً، وحتى وإن كان ثمنها أيضاً تبييض السجون الصهيونية. يبدو أنّ حماس معنيّة بصفقة الكلّ مقابل الكل، بما يؤدّي إلى وقف الحرب، وانسحاب القوّات الصهيونية من القطاع وبلورة مسار وسياق لرفع الحصار وإعمار القطاع.
ورغم أن الكيان، الآن، يؤكِّد أنّه لن يرضخ لمطالب حماس، التي يرى أنّها جاءت نتيجة سقوف عالية جداً، إلا أنّ المطالب نفسها، وعلى هذا المستوى العالي، تشير إلى الثقة الموجودة لدى حماس، المتأتية من يقينها كما يبدو، أنّ مسار القتال لن يزيد عمّا هو عليه الآن، وأنّ ورقة الأسرى ستبقى قائمة لديها، لتحقِّق من خلالها إنجازات شاملة، غير مقتصرة على إنجازات محدودة. وربّما هذه أهم ما في هذه المرحلة من نتائج للحرب.
والواقع، أنّ هذا التموضع وهذا الموقف، الصلب لحماس، متأتيان من حقيقة أنّ الكيان الصهيوني عَمِل أقصى ما يمكن عمله، دون أن يلوح في الأفق، إمكان نجاح الرهانات على تفكيك حماس عبر الخيار العسكري. لم يعد لدى الكيان إلا مزيد من الشيء نفسه، دون تحقيق الأهداف، مع دفع يومي للأثمان.
يضاف إلى ذلك، وجود تجاذب بين الكيان وأمريكا، حول اليوم الذي يلي، أي حول المخارج السياسية للحرب، التي زاد عليها حدّة، أنّ حسابات الأمريكي أيضاً، الابتدائية، كانت مبنيّة على إبادة حماس عسكرياً، فيما خياراته الآن مبنيّة على بلورة حلول لليوم الذي يلي، مع وجود حماس وتأثيرها في أيّ ترتيب سياسي وأمني لاحق لقطاع غزة.
المصدر: موقع المنار