اللواء الدكتور حسن أحمد حسن*
ليس غريبا ولا مستغربا ان يعجَّ الإعلام الإسرائيلي بالتناقضات والأكاذيب التي سرعان ما يفتضح زيفها وبطلان محتواها بمجرد إخضاعها لأية محاكمة عقلية، ويخطئ من يظن ان ثبوت كذب السردية الإسرائيلية يشكل حرجاً لمن كان وراء تسويقها، فالكيان نشأة وسيرورة وصيروة قائم على التضليل وتبني رؤى وتصورات لا وجود لها إلا في مخيلة من كانوا وراء زرع هذا الكيان المؤقت على أرض فلسطين عبر إغراق العالم بسيل من الزور والأباطيل والحجج والذرائع التي ما أنزل الله بها من سلطان، وما يزال هذا ديدنهم وعمود استمرارية وجودهم القائم على القتل والتدمير والإبادة وإثارة الفتن وسفك الدماء والعمل بكل السبل لإبقاء المنطقة متوترة وبعيدة عن كل ما له علاقة بأمنٍ أو سلامٍ أو استقرار، وما يهمُّ المسؤولين الصهاينة تسويق الرواية التي تخدم أهدافهم، ولا ضير لديهم من افتضاح زيفها لاحقاً، بل المهم توجيه القناعات والرأي العام وفق البوصلة المعبرة عن إرادة حكام تل ابيب، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالمؤسسة العسكرية التي يعمل مقص رقيبها كما يشاء، وتلتزم جميع وسائل الإعلام الإسرائيلي بالقيود التي تفرضها الرقابة العسكرية، بما في ذلك ما يتم تناقله عبر السوشيال ميديا بمنصاتها الإلكترونية المختلفة، ولتثبيت الكذب المراد تعميمه يعمد الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي ادرعي إلى نشر تغريداته عبر حسابه الشخصي على منصة إكس او غيرها من منصات التواصل الاجتماعي لتثبيت رواية محددة في أذهان الجميع، والعمل على تعميمها عبر فرق العمل المختصة لضمان حجب ما يراد حجبه، وتعميم ما يجب تعميمه من أخبار ومعلومات بغض النظر عن هشاشة المضمون وافتقاده لأدنى معايير المصداقية، وما اكثر الأمثلة والشواهد الدامغة على تناقض تصريحات المسؤولين الصهاينة من شخص إلى آخر، وتناقض تصريحات الواحد منهم فيما بينها واختلافها من يوم إلى آخر، وأحياناً من ساعة إلى أخرى، فما يتم الاعتراف به الآن قد يتم التنكر له بعد سويعات، وما يعلن عن نفيه واستحالة حدوثه يكون في طريقة إلى التبلور والتبني الرسمي له، وقس على ذلك كثير، وسأكتفي باستعراض مثال واحد وتفنيد مضمونه لتوضيح مدى الكذب والتدجيل وقلب الحقائق او نكرانها في الإعلام الإسرائيلي بعامة، والعسكري منه بخاصة، ولا سيما في زمن الحرب والخوف من انهيار الروح المعنوية في الداخل الإسرائيلي بمستوطنيه وجنوده بعد افتضاح مدى الضعف والهشاشة التي كان يتم نكرانها وتغطيتها بنزعة الإجرام والقتل، وتصوير جيش الاحتلال على أنه القوة التي لا تقهر.
بتاريخ 18/11/2023. اصدرت المقاومة الإسلامية في لبنان بياناً أعلنت فيه عن: (إسقاط طائرة إسرائيلية معادية من نوع هيرميز 450، وهي طائرة مسيرة قتالية متعددة المهام بواسطة صاروخ أرض جو أطلقه مجاهدوها عند الساعة 1:45 من فجر يوم السبت الواقع في 18-11-2023 وقد شوهد حطامها يتساقط فوق منطقة أصبع الجليل)، وتم إرفاق نص البيان بمقطع فيديو يتضمن عرضا للطائرة المسيرة “هيرمز ٤٥٠” مع أهم مواصفاتها الفنية والتعبوية، والمهام التي تستطيع تنفيذها، ومن ثم لقطات للطائرة بعد رصدها في الأجواء، واستهدافها بصاروخ، وهنا يمكن تسجيل بعض النقاط، ومنها:
١- توثيق لحظة إصابة الطائرة الإسرائيلية بالصاروخ، وتصاعد الدخان، وتناثر اجزاء منها في الجو، وعرض المشهد كاملاً ضمن الفيديو.
٢- أكد البيان ان الطائرة المستهدفة سقطت في إصبع الجليل، ولم يقل إنها سقطت فوق الأراضي اللبنانية.
٣- لم يتضمن بيان المقاومة الإسلامية نوعية الصاروخ المستخدم، إن كان قصير أو متوسط المدى، وهذا يعني أن كلا الاحتمالين وارد، ولينشغل الإسرائيلي بما يريد لتقديم تفسير موضوعي يقنع العقل، فهل لدى المقاومة منظومات دفاع جوي لم يتم الإعلان عنها، أم ماذا؟
بعد صدور بيان المقاومة الإسلامية في لبنان نشر أفيخاي أدرعي على حسابه عبر منصة إكس تغريدة تضمنت ما يلي:
(رغم الأفلام الدعائية المسيرة لم تصب بنيران حزب الله! قامت طائراتنا الحربية اليوم بتدمير منظومة صواريخ أرض ـ جو متقدمة في لبنان رداً على محاولة استهداف مسيرة لجيش الدفاع، حيث قامت المسيرة بالهبوط اضطرارياً داخل إسرائيل. نؤكد أن المسيرة لم تصب من نيران حزب الله)، وهنا يمكن تسجيل العديد من الملاحظات الكفيلة بكشف الكذب والتضليل، ومنها:
1- كرر أدرعي عبارة “المسيرة لم تصب بنيران حزب الله” وقد افتتح بها التغريدة، واختتمها بها أيضاً، وهذا يدل على أن العقل الباطن لأدرعي غير مقتنع بصحة العبارة التي استهل فيها تغريدته، فاضطر لتكرارها في الختام انطلاقاً من أن أكثر ما يبقى عالقاً في الذهن في أي خبر أو معلومة هو العنوان والخاتمة، وإلا ما الداعي لتكرار جملة بحرفيتها ضمن نص لا يتجاوز بضعة جمل قصيرة؟.
2- إذا كانت المسيرة الإسرائيلية لم تصب بنيران حزب الله فلماذا “هبطت اضطرارياً” في منطقة إصبع الجليل؟ سؤال لا إجابة عليه إلا باحتمالين: الإصابة المباشرة بصاروخ المقاومة، أو أن المسيرة “هيرمز 450” رأت جمال الطبيعة في منطقة الجليل، وخطر ببالها أن تنزل وتتنزه وتمتع كاميراتها بتلك المناظر الخلابة، فأي الاحتمالين يقنع أفيخاي أدرعي؟.
3- غاب عن ذهن أدرعي أن لا وجود لشيء اسمه (هبوط اضطراري) في عالم الطائرات المسيرة، بل في الطائرات التي يقودها طيار من حجرة القيادة الداخلية فيها، وليس من غرفة توجيه وتحكم وسيطرة من الأرض.
4- إذ أعدنا قراءة كلمات أفيخاي أدرعي بحرفيتها يتبين لكل من يريد تحكيم العقل أن الناطق باسم جيش الاحتلال يكذّب نفسه بنفسه لأن كلامه يدل على أمرين، وهما:
أ ــــ إذا كان لدى حزب الله منظمة دفاع جوي متقدمة، فمن الطبيعي أن يتم استهداف المسيرة الإسرائيلية بصواريخ تلك المنظومة، وطالما أنها متقدمة وفق منطق أدرعي فالطبيعي أن تصاب الطائرة وتسقطـ وبالتالي هو يكذب عندما يقول إن المسيرة لم تصب بنيران حزب الله.
ب ــــ إذا لم يكن لدى حزب الله مثل هذه المنظومة المتطورة من الدفاع الجوي، فهذا يعني أن أدرعي يكذب عندما يقول أن طائرات جيشه دمرت لحزب الله منظومة متقدمة من الدفاع الجوي، وحقيقة معطيات الواقع تشير إلى أن أفيخاي أدرعي يكذب في الاحتمالين، وهو يكذب على نفسه ويكذبها كيلا يزداد الرعب في صفوف المستوطنين الذين فروا من المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، كما أن الجنود المفرزين للعمل في الجبهة الشمالية يتململون وينتابهم الرعب المسبق مما ينتظرهم على أيدي قوات الرضوان إذا توسعت دائرة اللهب، وخرجت الأمور عن السيطرة نحو الحرب المفتوحة والشاملة.
5- في جميع الأحوال كان على أدرعي أن يتذكر أن الطائرة المسيرة “هيرمز450” تعود إلى من أطلقها بعد تنفيذ مهمتها، ويتم إنزالها إما على مدرج مجهز، وإما بواسطة مظلة، وكلا الامرين لم يتم، وبالتالي المسيرة الإسرائيلية أسقطت بنيران حزب الله، وليس بإمكان أدرعي إنكار ذلك، ولعل المراحل القادمة من المواجهة المفتوحة على كل الاحتمالات ستقنع أدرعي وغيره بأن إسقاط الطائرات المعادية لن يكون محصوراً بالطائرات المسيرة.
*الخبير العسكري الإستراتيجي
المصدر: بريد الموقع