يبدو تقدير قبول قرار استئناف حركة حماس لعلاقتها مع دمشق بعد البيان الذي أصدرته في 15 أيلول مبكراً بعض الشيء.
لكن لا يمكن فصل روافع هذا القرار عن الوساطة الوثّابة التي استمرت على أقل تقدير منذ عام 2019، بشكل يتعثّر تارة، ويمضي ببرود تارةً أخرى، حتى لاقت نجاحاً بعد الجهود المبذولة وبالأخصّ من سماحة السيّد حسن نصر الله، الذي قال في خطابه 17 أيلول:
” بيان الإخوة في حماس موقف متقدّم جدّاً، والتأكيد على السند السوري لفلسطين والشعب الفلسطيني، وضرورة تعزيز العلاقات معها من الجميع، وأهمية توحّد المقاومة لتحرير الأراض المحتلة من الكيان الصهيونيّ”.
يأتي بيان حركة حماس بعدَ مساعٍ حثيثة فرضتها طبيعة التغيّرات الإقليميّة والدّوليّة ولا سيما في ظلّ ارتفاع موجة “التطبيع والأسرلة” وتغيّر في تفاصيل “التطبيع” نحو التمتين واستكمال مهمّة التآمُر المبتدأة منذُ مراوغة اتفاق لندن المُجهَض من “شامير” الليكوديّ، بل وحتى من قبله. ولطالما كانت عملية “السلام” المُراد صهيونياً والمدعوم أميركياً حدّ التماهي، مرتبط بأحداث منبثقة من السّاحة الفلسطينيّة للشروع قدر الإمكان للتخفيف من كيّ جمر التحرّكات المقاوِمة “لإسرائيل”، ومع مطلع عمليات “السّلام” كان محرّك سعيها الأوّل انتفاضة الحجارة – عام 1987، وتفاصيل أخرى شهدت عِراكاً ولعِباً على قرارات مجلس الأمن الدولي ولاسيما اللاحقين لنكسة حزيران 67، وحرب تشرين 73.
حتى حطّ طريق مدريد الطّويل رحاله عند “أوسلو” أو ما يعرف بترتيبات “الحكم الذّاتي”. الذي أودى بنهاية المطاف لبصق الدّماء على صخرة الاستمرار بالاستيطان وتوسيع رقعة الاحتلال، وقمع الأعمال التحريرية، والتنسيق الأمنيّ المربوط بأوهام “أوسلو”.
من جانب آخر، وبعد استعراض تاريخيّ بسيط، يتضِح أن حماس وعملاً بالمتغيّرات المذكورة وتصاعُد منسوب الخطر، عمِلت على قراءة ومراجعة لخِطء الماضي الجسيم المبدوء مع موجة “الرّبيع العربيّ” المشتقّ من “الثورات الملوّنة”، وهو بطبيعة الحال حملَ مع جموحه الأوّل رهاناً بتسلّق “إخوانيّ”.. ووصول لسدّة الحكم في الدول المستهدفة تمهيداً لبلقنة المنطقة وتهيئة الأرضيّة لسيطرة “إسرائيليّة” على مفاصل القرار والتحكّم بالمجريات، والاستفادة من الموقع الجيو – سياسي.
عانت الحركة في تلك الفترة من تناقض كبير في وجهات النظر وتباينها، بين من غلّب المسار المُقاوم والآخر المناوئ له في المضمون لا الظاهر من خلال تعليق الآمال على أدوات “الرّبيع العربيّ”، ألا أنه ومع تغيّر في ترتيبة القيادة في حماس ومع بقاء من لم يرضَ بالتوجّه الابتدائي المُرافق للحرب وأحداث – 2011 الناتج عن القراءة إمّا الخاطئة، وإمّا المُسرفة في توقّع النتائج التي فرضتها بعض التقدّمات التي وفّرها الظرف الراهن آنذاك من دعم إقليميّ، وفتور عقلانيّ سوريّ في التعاطيّ المُستجلَب من القراءة المتآنيّة لمحاولات ذر الرّماد في عين الحقيقة، لاستبصار القادم والقدرة على الفَهم الصحيح.
يفرض المشهد الجديد نفسه من جهة ما رتّب وما سيرتّب له على الصعيد العام، بعد محاولات الحركة لطيّ صفحة الماضِ والعمل المقوِّم بعد ميثاقها عام – 2017 الذي تضمّن عدم التدخّل في شؤون الدول، والإرادة في الانفتاح على دول العالم من أجل تطوير عملها.
تُقرأ النظرة السّورية للبيان، وهو لم يصدر حتى اللحظة أي تعليق قياديّ سوريّ رسميّ، بالعمل على التمكُّن من خلق مناخ يؤمّن القبول المستساغ من قِبل الرّأي العام الشعبيّ السوريّ الذي ذاق مرارة الحرب عبر سنيّها الدّامية والناريّة. ألا أنه وإن مالت المزاجات على مستوى ما فات من نكء للجراح، يُجمِع الشعب السوريّ على حقيقة حقّة وهي خيار المقاومة وهذه نتيجة حتميّة لمن جعل من المقاومة سبيلاً وطريقاً لتحرير أرضه، وجعلَ منها عقيدة راسخة في وعيه الجمعيّ ونفسهِ الرّافض لأي نموذج من نماذج التبعيّة والخضوع والركون لمآرب مخططات أميركا و “إسرائيل” السّاعية لزرع بذور التفرقة والتدمير وشقّ الصفوف لإضعاف الموقف من فلسطين البوصلة، ولأن الحرب كانت ولا تزال تهدُف لفكفكة النّسق المقاوم الصَلب وهذا ما لم ولن يحصل في بلد قدّم الكثير من التضحيات ولم يبخَل بإمكاناته المفتوحة لحركات المقاومة الفلسطينيّة ومنها حماس، ولا سيما عام 2012 التي شهدت استجابة سوريّة بتزويد كتائب القسّام بصورايخ كورنيت الشاهدة على الدّعم الكبير المتضحّ في معركة سيف القدس في أيار/مايو 2021 في بيت ياحون، كما وأن ذلك سيكون له الدّور في شدّ رباط الالتصاق بالخيار المقاوم المختّط بالدماء الذي جعلَ من فلسطين ولا شيء غيرها بوصلةً لعملهِ، ولم يجعل من التوقيت الصّعب خياراً يُستبدل بالاتجاه، كما ولأن الحرب على سورية وفيها لم تحرِف البوصلة رغم ما رافقَ توجيه الدفّ في بحر الصّراع المختلق من صعوبات وتضييقات.
قد تُلخَّص النظرة السّورية لخطوة حماس بعدم النّظر لها كجسم متجانس واحد يحوي تيارات تضيّق على الأخرى في خيارها، في سبيل السّعي لحسم الخيار من جهة، وما تخطّتّهُ القيادة السّوريّة من محدداتٍ ومحاذير فرضتها العشريّة الكاوية، وبما يعزّز في الوقت ذاته دورها في الجمع بين كلّ مكوّنات العمل المُقاوِم الساعي للتحضير لخوض المعركة الكُبرى،
وموقعها المشكِّل للحلقة الذهبيّة في عِقْد محور المقاومة.
ربما تطول القراءة التمعُنيّة المقرونة بمحدداتٍ لا تُخِل بالكِدّ المقاوم من قِبل القيادة السّوريّة رغم وضوح مطلبها الأساس لإعادة تواصل حماس معها، وهو تطهير ظهرها من أدران السقطات السّابقة ولا سيما على صعيد التموضع في حضن تراه سورية جزءاً من الحرب المركّبة عليها، وفي الوقت الّذي تعمل فيه على حلحلة ملفّات تواصلها مع تركيا، ما يعطيها وقتاً للمُفاضلة بين الأولويّة والأساسيّة، مع المضي بالتخندّق في محور المقاومة الذي يزيده تعاضُد أطرافه فيه قوةً وتنسيقاً موازياً لتغيّرات وتطوّرات المواجهة مع العدوّ الصهيونيّ.
المصدر: صحف