قد لا تكون مسألة عودة دمشق لجامعة الدول العربيّة بعد تجميد عضويتها في تشرين الثاني 2011 كثاني دولة تُعلّق عضويتها بعد مصر إثر اتفاقها مع “إسرائيل”، الأمر بالغ الأهمية في وقعه بقدر التغيّر في المشهد الدوليّ والّذي أسس بدوره صعود فواعل كانت قد وفّرت بالحد الأدنى شناجات دور أكثر امتعاضاً من الهيمنة الأميركية عقب أزمتها المالية عام 2008، هذا التغيّر الذي صاغ واقعاً ضمن إطار عربي يتجه نحو التوافق مع دمشق بعد 12 سنة من الحرب عليها وفيها وبدعم عربي مؤثر في نشوء الصراع قبل قرار تدويل الحرب بما يحمله من رؤية استراتيجيّة وضّحتها طبيعة الاحتكاك الروسي – الأميركي على الأرض السورية في العديد من الملفات.
وفّرت المبادرة الإماراتية منذ عام 2018 بعد افتتاح سفارتها في دمشق مساراً تهادت فيه عدّة دول عربية بعدها للتقارب مع سوريا، وهو ما ظهر جلياً اليوم في الحراك اللامُعلن ببعض جزئياته بين دمشق وبقية الدول قبل أن تظهر بطبيعتها الحاليّة على العلن، يُضاف لهذا الأمر مشهد رائع فتح الأفق أمام العلاقات السورية – السعودية يتمثّل في الاتفاق السعودي – الإيراني بعد سنوات من القطيعة والتشاحُن المدعوم أميركيّاً منذ ما بعد كوينسي 1945.
يبدو أن التفاعل العربي مع الواقع السوري الجديد الذي تملك فيه الدولة السورية أوراق قوة متعددة ينظر فيه لضرورة الحل السياسيّ في وسط التباين الرؤيوي لكل دولة عربية على حدى، بعد انتقال الدولة السورية لموقعٍ أكّدت فيه عبر تجربتها السابقة بأنها حالة استنزافية لقوى من حولها وتمدد كارثيتها لجيرانها من جهة، وفشل الهدف الأساس المتمثّل في ضربها لعزلها وفدرلتها تمهيداً لاستكمال مخطط “الربيع العربي”.
يحمل الأفق الدولي اليوم المنتقل بهدوء مدروس بفترة قد تبدو أقرب لتهميش الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط وإشغال مقعد هيمنتها بتقارب فواعل كبرى على الساحة الدولية وفي مقدمتها الصين و روسيا مع الدول العربية ضمن مشروع “الحزام والطريق” المتطلّب عملياً استقراراً لا يمكن له أن يتحقق وفق المنظور الصيني إلا بخلخلة الوجود الأميركي على امتداد المشروع، لكن هذا كلّه لا يعني بالمطلق تمرّداً على هذه الهيمنة بشكلٍ يُنبئ بصدام دامٍ، بل على العكس قد لا يتم ببعض الساحات المرتبطة بالأميركي إلا بإيعاز منه، لكن المبادرة الصينية السلاميّة توحي إلى تقدّم الدور الآسيوي الناهض وبقوّة في قيادة الدور المُقبل وهو ما تترجمه الاتفاقات الاقتصادية العميقة بين ثلاث قوى رئيسة (روسيا، إيران، الصين) تستلب حيوية الحضور الأميركي الذي يستتبع خسارةً مؤكدة لـ “إسرائيل”
وهو ما دفع بها للعبث بساحات حصارية لكلّ من إيران و روسيا والسودان، ومواجهتها لتهديدٍ حتميّ مصدره الضّفة الغربيّة.
تتيح الفاعلية السياسية العربية المتجهة نحو دمشق برؤى تبتنى على ضرورة الحضور السوري الفاعل إقليمياً و عربياً الأفق في إيجاد مخرج للحرب السوريّة سياسياً يتجلّى ذلك في المصالحة السورية – التركية ربطاً بالانتخابات في منتصف أيار/مايو المقبل والتي يرى مرشحها المُنافس لأردوغان ضرورة إنهاء التواجد التركي في سوريا إضافةً لكيفية تعامل سوريا مع المبادرة الكرديّة عقب الحركة السعودية التي لمّحت لعودة الدور السوري لما كان عليه وحملت دعوة لحضورها القمّة العربيّة في الـ 19 من أيار المُقبل.
السؤال الأكثر أهمية اليوم هو أي فائدة لعودة سوريا لجامعة الدول العربيّة بدعمٍ وتسهيلٍ عربيّ كان هو نفسه المُطالب بتجميد عضويتها المخالف لنص المادة 18 من الميثاق المؤيَّد من 18 دولة عربيّة عدا 4 أخرى، ثم هل أنَّ العودة هي غاية بحد ذاتها أم شكل لرد اعتبار “الطارد” بعد إثبات سوريا لقوتها وانتصارها حتى تتحقق الغاية ؟
لا نغال إذا ما قلنا أن العودة هي إحدى صور كسر الحصار عليها، في الوقت ذاته، ليس كسراً بالقدر المطلوب لترميم حجم الكارثة، وهنا نعود لمقابلة الرئيس بشار الأسد في حزيران الماضي مع قناة RT الروسيّة، حينما رأى أن وزن القمة في مكان عقدها بالجزائر، وأنه لا بد من أن تتحرر من الملفات الضاغطة لعملها، وهي بطبيعة الحال كانت مسبباً في تجميد مقعد سوريا. تشير الحالة اليوم لمسألة تقنيّة تحكم عودة دمشق لمقعدها يتمثل في طلب دولة لعقد مجلس طارئ للجامعة وتأييد من دولة أخرى، وبمقاربة يسيرة مع الزيارات السورية للدول العربية قد يكون الطلب من الجزائر و التأييد من السعودية أو العكس! وربما من الإمارات، في مقابل دول لا تزال تتعنت في ذلك المسار كمصر و قطر و الكويت أقل تشدداً. وبعدها يُجرى تصويتاً ( موافقة، امتناع، رفض) يوازن فيه بين الأغلبية و الأقلية مع بيان أسباب الرفض والأسباب الأخرى، أو من خلال الوزن العربي في الجامعة على مستوى وزراء الخارجية بصرف النظر عن التصويت بمعنى أن العودة هي تحصيل حاصل أو باتت قاب قوسين، بتقديري الإطلال الأساسي من نافذة العودة يتركز في إعطاء مشروعية التواصل العربي – السوري عبر الإجماع الشبه كلّي على هذه العودة، وهو بكل الأحوال وإن قُرأ توافقاً عربياً يَأمل أن ينضج ويتقوّى وهو رغبة سوريّة ضمن الإطار العام، ألا أنه نظرياً لا يعدو أن يكون رد اعتبار عربي من باب نحن نُخرج ونحن من نُعيد، لكن المفصل المعوّل عليه من كل هذا التقارب المعترف بالوجود السوري المنتصر واقعاً كحالةٍ واقعةٍ أيضًا الملف الاقتصادي كأولوية في إعادة الإعمار وهو يوفّر فرصة خليجيّة تتسق ورؤاها في سبيل التمدد المدروس على حساب قوى أخرى دَفعَت قدماً في خروج سورية من أزمتها ( كونها تطالب بالمقايضة ) .
في كل الأحوال، ما بعد القمة العربية سيفرز رؤىً استشرافية لواقعٍ أكثر تعاونية، وستكون زيارة الرئيس الإيراني يوم الأربعاء القادم محطةً أساسيّةً في مرحلة ما بعد العصر الاستنزافي على طريق التعاون وفق قاعدة الاستقلال وتسخير الإمكانات حتى تغدو ساحة الصراع ساحة تعاون وجلب استثمارات تتسابق، على قاعدة تحقيق كل طرف لمصلحته.
المصدر: صحف