لطالما تتربّى الأجيال على قراءة الحروب كجزء من التاريخ السياسي بشقيه القديم والمعاصر الحديث، بمعنى أثر الحدث ككل على المنطقة والعالم والإقليم وقراءة تكتل التحالفات المتمخّضة عن هذه الحروب، ولعلّ هذه القراءة تنمّط لحدٍ ما التركيب البنيوي الذي يُبنى عليه النصر في الحرب، وما يميز اليوم محور المقاومة بشكلٍ عام، وحزب الله بشكلٍ خاص مخصوص أنّه لم يفصل أيّاً من أحداثه وتطوّراته وتقدّمه عن دور قادته وحاملي رسالته منذ البداية، بعد أن فهموا نشأة التأسيس وبنوا على قواعد وفّرت عوامل البقاء والاستمرار فيما بعد وليومنا هذا، فهو لم يعزِل العمل المقاوم عن المنهج، منهج الإسلام الذي بُنيت عليه وعلى أساسه المسيرة وانطلقت بثباتٍ ووضوح ليكون الانتماء غير منفصل عن التربية العقائدية والسلوك الإسلامي، بما لذلك من دور أساس في صقل الروح الإيمانية وتهيّئتها عبر التعبئة والتثقيف، ليكون نتاج التأصيل الشرعي والعقائدي تربية جماعة وجيل متمسّكٍ بالنهج .
ومن هذا المنطلق الهام جدّاً نجد اليوم قدسية إحياء ذكرى الشهداء القادة بما تحمله من دلالات وأبعاد على مستوى التكوين وإسراج قنديل الرؤية الثاقبة التي صنعت وقَفَات تاريخيّة بَنت روافع شروع استشراف المستقبل بعد قراءة الحاضر امتداداً من الماضِ استفادةً، لخلق تطوير قوّة القوّة على مستوى استراتيجيّة العمل الجهادي المقاوم بدءاً من الفرد وليس انتهاءً بالجماعة ليكون الإطار الفاعل في تحشيد الطّاقات وتوزيع الأدوار .
وبناءً على ما سلف، تأتي ذكرى الشهداء القادة كما كلّ عام حتى تُجدد عهد من اقتبل بالنهج والمنهج، منهج الإسلام، ونهج الشهادة، ولا ينسحب الأمر على حركة المقاومة ضمن حدودٍ معينةٍ أو أطر جغرافية محددة، بل على العكس تماماً، يتعدّى ذلك التنظيم المكوّن للعمل المقاوم كحركةٍ ليصل بكونه فهرس وثقافة حياة لكلّ المؤمنين بالمقاومة كخيار وقرار على اختلاف مشاربهم، فهؤلاء القادة الشهداء من الشهيد الشيخ راغب حرب، للسيد عباس الموسوي، للحاج عماد مغنية (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين)، عملوا برسالة الإسلام الأصيل، الجامع لكلّ قيم الإنسانية، المانع لكلّ ظلم وباطل، والمنضوي تحت تعاليم القرآن الكريم كدستور حياة وبرنامج عمل المؤمن .
ولا مناص من الذكر، أن العمل المقاوم وفق رؤية القادة الشهداء بالعين الإلهية، الزاهدة بالدنيا، والتوّاقة للآخرة، تسبك قاعدة مهمّة تشكل بذرة ونواة العمل الجهادي، مفادها: “أن المقاوم في المكمن أو المواجهة هو مشروع شهيد انسجاماً مع إيمانه الإسلامي وتكليفه الجهادي، وبما أن احتمالات شهادته كبيرة بسبب حجم المخاطر التي يواجهها، فإذا توفر هدف مهم باستشهادي واحد، يصبح العمل الاستشهادي أولى من غيره، وقد يكون الاختيار محصوراً في بعض الحالات بنوعٍ محدد من العمليات لعدم إمكانية القيام بعمليات أخرى فالمهم عدم خلو الواقع الميداني من العمليات المستمرة بالوتيرة الملائمة لهذه الاستمرارية”. وهذا يعني في الأصل أن العمل الجهادي يستمد جذوره من الشهادة بل هي محرّكة العمل على كل المستويات، فالمهم عدم التراجُع في ساحة المعركة والأصح هو عدم الخلو منها، أي السير على قدمٍ وساق في استمرار العمل المقاوم المزخّم بالشهادة كثقافة متفرّعة من ثقافة المقاومة الجامعة للعديد من العوامل التي تعطيها بيئة الاستمرار والتطوير .
ونتيجةً لذلك يكون الأداء المقاوم عمل تراكمي لا تتحقق نتائجه بجولة أو جولات، فالرهان على مواصلته ليؤدي نتيجته في المستقبل، وعدم حصر أو قصر النصر على العامل العسكري فقط، بل هناك عوامل تتداخل وتتمازج لتؤدّي للنصر، منها الأداء الفعّال، والمعنويات العالية، وتداخل الظروف المحلية والإقليمية والدوليّة، لكن أتعرفون ما حاصل اجتماع كلّ ما ذُكر ؟! حاصلهم هي الرّوحية، بالضبط. التي عمِلَ الشهيد القائد مغنية على صقلها وتدعيمها وإيلاء الاهتمام الأكبر لها، لأن المقاوم يقاتل ببندقيته أو بأي سلاح تتطلبه العملية هذا صورياً، لكن حقيقياً الروح هي من تُقاتِل، حتى يكون مطافها أن تُقتل في سبيل الله جلَّ وعلا فتكون قد فازت بما طمُحت له أوّلاً، وأوفت للأسلوب المُنتهَج في عملها وسيرتها ثانياً.
ولعلّ من المفارقات التي لا يعرفها البعض، أن الأحزاب وعلى اختلاف ميولها يمنية أو يسارية، محافظة أو معتدلة، تربط المنتمي لها “ببطاقة”، لكن الحزب لم يسلك نفس الطريق حتى لا يرتبط الانتماء بالبطاقة، ولأن المنتسب لن يكون وحده في تحقيق أهداف الحزب، فهوُيته الإسلام ونهجه الشهادة وبطاقته “ارتقى أثناء القيام بعملية … ” .
نعم، هذا هو حزب الله، هؤلاء هم قادته الاستراتيجيين في التكتيك، الروحيين في الخُطا، والسامين بثقافة حياة ما بعد الحياة، الذين أسقطوا “إسرائيل” قبل أن تُمحى واقعاً لأنهم وفّروا ببصيرتهم كل مناخات التعاطي مع مراحل صياغة واقع التحرير والحرّية، ليقول لنا التاريخ اليوم، لا تنظر للنصر منفرداً، بل انظر لمن صَنَعه، وتعلّم ورَ من كان مجاهداً من الطلقةِ الأولى، فالعظماء صنعوا تاريخاً، والتاريخ أثمرَ عزة ومنعةً وقياماً، فالسلام على الشهداء وذكراهم الذاكرة، سلاماً على روح المقاومةِ عمادٌ، ومفتاح تعبئتها راغبٌ، ومترجم عملها عباسٌ، بهدفٍ دقيق وواضح ومحدد، وبأشفار عينٍ يستظلّ بها النّاس، وبموقفٍ باروده سلاح سقط دمُ حامله بيد الله فأينعت الأفانين وحان موعد القطاف في الفجر القادم القريب.
المصدر: موقع المنار