جاءت زيارة الرئيس الايراني السيد ابراهيم رئيسي لسوريا ضمن مسار استمراري لحليفين استراتيجيين بنيت علاقتهما على قاعدة من المبادئ والثقة والصدق والتعاون الشامل، فكوّنت رؤى اجتلبت غنى مضمونها عبر التجربة التي خاضَها معاً جعلت من الحرب الكونية على سوريا مفتاحاً لصياغة مشهد وفّر عوامل نسجت تحوّلات دولية أفرزت متغيّرات إقليمية جعلت الطرفان يشغلان دوراً رشّحهم إليه إفشال المخطط الصهيوني بالدرجة الأولى المدعوم أميركياً ليكون مصبوبه في تحقيق وتوفير الأمن لـ “إسرائيل” التي عمِلت مطوّلاً على صياغة وإدارة السياسة الأمريكية – الشرق أوسطية منذ ما قبل الحرب على العراق عام 2003، هذه الحرب التي كانت بتغذية من “اللوبي اليهودي” والمحافظين الجدد وليس من “النفوذ اليهودي” إن صحّ التوصيف ذلك أن الموافقة اليهودية على هذه الحرب وفق الموضّح من استطلاعات الرأي التي جاءت عليها وثائق أميركية تراوحت بين 52 % – 62 % رفضاً. وهو ما ظهر جلياً في تصريح مستشار كونداليزا رايس “العراق ليست الخطر المباشر على أميركا، بل الخفي على إسرائيل”.
جهد الكيان الصهيوني ومن خلال الحروب المتنقّلة ومن ضمنها الحرب على سوريا في عدم تمكين التهديدات التي تجتذب أخطاراً ماحقة عليه سواء عسكرياً، أو عدم تمكين التعليقات التي تجتذب آذاناً صاغية في الساحة الدولية سياسياً، واقتنع منذ مطلع الحرب عليها بتحويل الصراع لاستنزاف سوريا تمهيداً لفكفكة الخط الدفاعي الأول عن المقاومة وبالتالي إبعاد الخطر الوجودي عن الكيان الصهيوني، وبرز ذلك عملياً ضمن ما عُرف بـ “المعركة بين الحروب” التي صوّرت العدوان الصهيوني والأميركي والأطلسي على سوريا بأنه حرب ضد حليفتها الأوثق إيران، وهي مقاربة تنبثق من الخوف الموغل في تقوية الساحة السورية ضد “إسرائيل” وهو ما حصل فعلياً وسآتي على توضيح ذلك.
أدركت إيران مبكراً ومع مطلع العدوان الصهيو – أميركي على سوريا أنّ الحرب ليست ضد سوريا وحدها ولا على إقليمها – استراتيجياً – بل هي حرب تستهدف بالمقام الأول الجبهة التي كوّنتها سوريا وإيران خلال عقودٍ خَلت جبهة المقاومة المستجمعة لكل مفردات القوة وتطوير الموقع والدور في الصراع ضد الكيان الصهيوني، وأثارت خطوات دمشق في تشكيل تكتل قوي من دول المنطقة يقف في وجه الخطر الأمريكي بعد احتلال العراق ولا سيما تعميق الحلف مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودعم المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين حفيظة أميركا التي بدأت بالهجوم الممهد لبسط العدوان العسكري بعد الهجوم السياسي والإعلامي.
تستمد الرؤية الإيرانية الاستشرافية منذ اللحظات الأولى للحرب صوابيتها من إيمانها بموقعية سوريا الحليف الوثيق المؤمن بثورتها المؤسسة لكل مفردات مداخل القوة في الصراع مع “إسرائيل”، وأكّد أهمية هذه الرؤية وثقلها القراءة الدقيقة للعدوان على سوريا في المطالعة التي قُدّمت استشارياً لمجلس الأمن الإيراني، والتي لوّحت بضرورة تحويل التهديد الذي سيندفع لكل أطراف جبهة المقاومة فيما لو نجح لفرصةٍ تنقل المواجهة لـ “إسرائيل”، ومفاد التهديد هو إجراء التحوّل الجيوسياسي لنقل سوريا إلى المحور الآخر الذي يعرف “بالاعتدال”.
رأت إيران أن هذه الاستراتيجية المعادية تهدف للإطاحة بثلاثين عاماً من الجهد وعلى كافة المستويات في المنطقة لدعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وبالتالي توجيه ضربة لسياسة إيران على الصعيدين الإقليمي والدولي ومن ثمة استتباع تهديد الأمن القومي الذي يتعدى مفهومه من خلال المحيط، ودراسة ديناميكية الصراع الدائر مع شعاراته التي تبث الطائفية والمذهبية والعرقية؛ لأنه فيما لو نجحت هذه المفردة المعتبرة غربياً كمدماك حرب، فإن المعنى هو تهديد النسيج المجتمعي وضرب البنية المجتمعية لدول الإقليم وتهديد وحدتها، ما يعني قتال الدول حتى تحافظ على أرضها من صراع شعوبها على أرضها !
تمثّلت الفرصة الناقلة لعوامل التهديد إلى مراكز صنع القرار في “تل أبيب” في أن هدف المساندة العسكرية الإيرانية لسوريا لن تقتصر على مواجهة الإرهابيين فحسب، بل في طرح شعار (إخراج الحيّ من الميت) لتقوية محور المقاومة انطلاقاً من الساحة السورية عبر تعزيز حضوره في بناء جبهة المقاومة جنوباً المقابلة للجولان المحتل وفلسطين المحتلة، ليكون الحاصل هو تقوية محور المقاومة إقليمياً ليشكل عمقاً استراتيجياً يخدم المعركة المباشرة مع الكيان الصهيوني الذي زج بقواه المأجورة في المؤامرات البديلة حتى لا يرهق قواه الذاتية أو لا يدخلها في خوض معركة مع قوى المقاومة.
استطاع محور المقاومة اليوم، ومن رؤاه العميقة التي استمدت روافع نصرها وحضورها الحافل بالقوة من دحر الحرب على سوريا، سواء لجهة إفشالها تماماً، أو لجهة موضوعية التعاطي والتعامل معها، هذه الموضوعية التي لم تغفل أن تكون الحرب على سوريا مفتاحاً لنظام عالمي جديد، وساحة لخلخلة توظيف فائض القوة الأميركية في غرب آسيا والشرق الأوسط وهو ما أدركه الروسي أيضًا من خلال الإيراني الذي وضّح نقاط الضعف السابقة لأميركا في غرب آسيا ولا سيما حرب تموز – 2006 التي حضرت فيهما سوريا وإيران بشكلٍ أو بآخر دعماً وتقويةً تاريخية منعت أن يكون لبنان المتنوع ديمغرافياً ورقةً بيد أخصام سوريا، وهو ما حصّل عملياً دخول روسيا على خط المعركة أواخر أيلول – 2015، بعد مشاورات مع إيران التي أفردت نقاط الضعف الأميركية وهي جزء من تحققها لجانب سوريا، وقدّمتها كتحوّل دوليّ لا بُدّ للروسي أن يَبني عليه.
على الصعيد السياسي، تدرك أمريكا ومن خلفها الكيان المؤقت جيدًا صلابة الموقف السوري من الاحتلال الإسرائيلي؛ الموقف الذي كان يهدد مسار التطبيع في العالم العربي لما كانت تمثّله سوريا من موقع قوة في المحيط العربي؛ فكان تدمير سوريا وإضعافها ضرورة جوهرية لتمرير المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. وعلى الصعيد العسكري، وبعد عقد من الحرب، بقيت سوريا في قلب الصراع العربي الصهيوني، كما كانت دائمًا، وصمدت في خندق الدفاع عن ظهر المقاومة، وبقيت فلسطين بوصلتها الأساسية ورأت أن الاعتقاد بالنأي بالنفس سياسة هو أمرٌ خاطئ، فدافعت عن فلسطين وكل محور المقاومة بصمودها وتضحيات جيشها وشعبها، وقوّت دعائم الارتكاز في الصراع مع العدو الصهيوني.
تتأتى أهمية زيارة السيد رئيسي، من كونها جامعة لعدة ملفات وفي مقدمتها الاقتصادية، فإيران وقفت منذ اللحظة الأولى حتى لا ينهار الاقتصاد السوري عبر العديد من الخطوات، منها شراء النفط لحساب سوريا قبل تقدم الإرهابيين لمواقع النفط،
والتسهيل التجاري لشراء السلع من السوق الإيرانية وشراء إيران لهذه السلع عندما لا تتوافر في سوقها، شراء الطحين، إصلاح محطة كهرباء حمص تحت نير القذائف باستطاعة 450 ميغا واط، وتجدر الإِشارة أنه تم في عام 2013 توقيع اتفاقية بين البلدين تتيح لدمشق الاقتراض من إيران حتى سقف المليار دولار وذلك بفوائد ميسّرة، وهي تفاقية “خط التسهيل الائتماني” لتلبية الإحتياجات الأساسية للحكومة السورية، وتلا ذلك اتفاقيات على المستوى العسكرية عام 2020، واليوم التعاون الشامل طويل الأمد عام 2023، ما يعني أن الدعم الإيراني لم يكن مرهوناً بالفترة العصيبة الإنقاذية لسوريا بل مستمراً حتى اليوم، فالطرفان لا تجمعهما مصالح مشتركة من أجل المصالح، بل غدت شراكة حياة صمدت رغم كل أسنة العواصف، وهو ما وضّحه الرئيس بشار الأسد خلال اللقاء بقوله: “العلاقات السورية الإيـرانية غنيّة بالمضمون، غنيّة بالتجارب وغنيّة بالرؤية التي كوّنتها، ولأنها كذلك كانت خلال الفترات العصيبة علاقة مستقرّة وثابتة بالرغم من العواصف الشديدة السياسية والأمنـية التي ضربت منطقة الشرق الأوسط”.
يمكن القول اليوم، أن العلاقات السورية – الإيرانية طموحة لمستقبل ما بعد الحرب، كون إيران مصرّة أن تكون لجانب سوريا في مرحلة إعادة الإعمار، من خلال توسيع مدار الاتفاقيات، وشحن التعاون الاقتصادي للدور المأمول حتى يرتفع مستوى التعاون، فشريك الحرب ضد الإرهاب، هو شريك البناء ضد الإرهاب المدولر أيضًا، ويبقى للمستقبل القريب الذي بنى على الأمس القريب أن يوضّح طبيعة المشهد القادم المتوقّع له النهوض بكل المقومات التي وفّرها الصمود السياسي والعسكري وينبغي أن يترجمها الاقتصادي للنهوض والاستمرار ضمن التوافق الدولي المتقارب لعالم ما بعد أمريكا.
المصدر: بريد الموقع