في العام 2019 قدم وليام بيرنز رئيس مركز كارنيغي للشرق الاوسط انذاك دراسة واقعية عن مستقبل امريكا في المنطقة احدثت جدلاً واسعاً في مراكز القرار الامريكي لتنقسم الاراء بين مؤيد ومعارض للدراسة.
دراسة وليام بيرنز افضت الى خلاصة مفادها انه على الرغم من الإنجازات المهمة، التي تحققت لكن نحن في الولايات المتحدة أحياناً كثيرة لا نقرأ التيارات الإقليمية بصورة صحيحة، ونخطىء في استخدام الوسائل التي تتلاءم مع الغايات في نقطة زمنية معينة، ويعطي بيرنز مثالاً:
ما بعد “الصدمة” الناجمة عن هجمات 11 سبتمبر 2001، دفعنا تعصُّبنا إلى تجاوز حدودنا العسكرية والتقليل من الاستثمار الدبلوماسي و سمحنا لطموحاتنا بالتغلب على إمكاناتنا الفعلية في المنطقة وغالباً ما كانت النتائج مخيبة بعدما اعتمدنا شتى سبل الاغراءات وبنينا افتراضنا معتمدين على مبدأ التأثير مقابل التقليل من العقبات التي تعترض طريقنا و كل ذلك أدى إلى عدم الانضباط والى خيبات كثيرة ما قلل بصورة مضطردة من رغبة معظم الأميركيين الدخول في مغامرات بالشرق الأوسط.
ويكمل بيرنز قائلاً: ما وصلنا اليه يضع السياسة الأميركية على مفترق طرق ولنعترف بتلاشي لحظتنا وبأننا لم نعد القوة الوحيدة المهيمنة في الشرق الأوسط، لكن لا تزال لدينا يد قوية يمكن استخدامها. لان مفتاح اللعبة الصحيحة ليس في استعادة الطموحات المبالَغ فيها والعسكرة المفرطة المستعملة في افغانستان والعراق وسوريه والخليج العربي و ليس الى حد فك الارتباط بالكامل. بل علينا التعامل مع التحولات التي طرأت في المنطقة بواقعية اكبر وخصوصاً مع ايران وسوريه والعراق.
وتخلص دراسة بيرنز الى توصية بضرورة عدم الايغال بالعقوبات الاحادية على الدول وبخفض التوتر في المنطقة والتخلي عن السيطرة العسكرية المكلفة والمرهقة للخزينة، والتحول الى الادارة عن بعد عبر زرع الالغام الاقتصادية بين الدول والمحافظة على ارتباط العملات بالدولار الامريكي والهيمنة على منابع الغاز والنفط، الامر الذي بات ملحاً لما فيه مصلحة امريكية استراتيجية.
واذا ما تابعنا سلوك الادارة الامريكية بدءا من عهد اوباما الذي اعلن عن انتهاء الحروب الامريكية خارج حدود الولايات المتحدة مروراً بعهد ترامب الذي قرر خفض عديد القوات الامريكية في الخليج مطرزاً خطابه الشهير من يرد الحماية الامريكية عليه ان يدفع البدل المالي، وصولا الى عهد جو بايدن الذي اختتم عشرين عاماً من التواجد العسكري الامريكي في افغانستان بانسحاب اقل ما يوصف انه انسحاب مذل، يتضح لنا ان توصية وليم بيرنز اخذة في التنفيذ.
اذاً المنطقة قابلة على متغيرات في السلوك الامريكي مع دول المنطقة والذي كان متبعا لعقود سابقة لا سيما في ايران والعراق وسورية والتفرغ لادارة ومواجهة خطر التنين الصيني الروسي القادم بسرعة لافتة.
تبدلت الاحوال وانقلبت المعادلات فبعد ان بحت ايران لسنوات بالدعوة الى عودة امريكا للاتفاق النووي صارت امريكا هي المبحوحة من دعوة ايران الى استئناف مباحثات جنيڤ مقابل تريث وشروط ايرانية مدروسة بعناية وبمهارة حياكة السجاد الايراني الامر الذي فرض في ايران والمنطقة واقعاً جديداً خصوصاً بعد الانتخابات واستلام رجال القائد الخامنئي مقاليد الرئاسة والسلطتين التنفيذية والتشريعية في ايران.
لبنان حاز على النصيب الايجابي الاكبر من المتغيرات في ايران فالرئيس ابراهيم رئيسي اعلن في اكثر من مناسبة انه لن يتوانى للحظة عن دعم شعب لبنان و حزب الله خاصة في مواجهة الغطرسة الامريكية الصهيونية، ما يعني الانتقال بالمنطقة من مرحلة الدفاع الى مرحلة المواجهة.
الاستجابة الايرانية الفورية لطلب السيد حسن نصرالله تزويد لبنان بالمواد النفطية لم تكن لتحدث لولا انكفاء النفوذ الامريكي في المنطقة واستثمار دول الممانعة لحظة الانكفاء لأجل ضمان حصاد اكثر امناً واقل كلفة.
ما ان اشيع خبر ابحار الباخرة الايرانية المحملة بالمواد النفطية متوجهة نحو الشواطئ اللبنانية حتى سارعت الادارة الامريكية واوعزت الى سفيرتها في لبنان دوروثي شيا إبلاغ الجهات اللبنانية الرسمية بقرار “السماح” الامريكي باستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الاردن الى لبنان عبر الاراضي السوريه مبررة ذلك بمساعدة لبنان على تجاوز محنته الكهربائية والنفطية.
بعد عشر سنوات من جفاء لبنان الرسمي المتعمد تجاه سوريه العروبة تنفيذاً لأوامر امريكية اوروبية بهدف استغلال الساحة اللبنانية منصة لضرب وانهاك الاقتصاد السوري، صدرت التأشيرة الامريكية التي تسمح للبنان الرسمي باعادة التواصل مع سوريه الاسد والطلب منها السماح بمرور الغاز المصري والكهرباء الاردنية عبر اراضيها الى لبنان.
على الفور صدر مرسوم لبناني استثنائي يقضي بتفويض وفد وزاري لبناني بزيارة سوريه الاسد يتألف من زينة عكر، نائبة رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزيرة الدفاع والخارجية بالوكالة، ووزير المالية، غازي وزني، وزير الطاقة، ريمون غجر، وبرعاية المدير العام للأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، والتي تعتبر الزيارة اللبنانية الرسمية الأولى الى سوريه وتشكل بذلك الخرق الاول للمنع الامريكي الذي كان مفروضاً على لبنان منذ العام 2011.
واهم من يعتقد ان امريكا سمحت للبنان الرسمي بالتواصل مع سورية عن حسن نية او لمساعدة لبنان لكن الحقيقة هي ان الادارة الامريكية ادركت حجم المتغيرات في المنطقة وفضلت الانتقال الى مرحلة جديدة اكثر واقعية واللجوء الى زرع الالغام الاقتصادية و ادارة الملفات عن بعد كما اوصت دراسة وليام بيرنز.
امريكا زرعت لغماً في سورية وانتظرت تفجيره بوجه لبنان متوقعة تمنع الجانب السوري تلبية طلب لبنان نظراً للجفاء اللبناني تجاه سوريه و الذي استمر لاكثر من عشرة اعوام لكن سوريه العروبة بقوميتها العربية وبحنكتها الاستراتيجية استطاعت تفكيك اللغم الامريكي بدبلوماسية عالية مستوعبة طلب لبنان الرسمي مبدية اعلى درجات التعاون لمساعدة الشعب اللبناني المعذب جراء الضغوط الامريكية على لبنان.
زيارة الوفد اللبناني الى سوريه لن تكون الاخيرة بل ستليها زيارات لبنانية متعددة، ونستطيع القول ان زمن الضغوط الامريكية المفرطة على دول المنطقة قد ولى وان مرحلة جديدة من التعاون بين لبنان وسوريه امنياً واقتصادياً وسياسياً قد فرضت نفسها وبان سوريه العروبة هي الدولة الوحيدة الرابط الرئيس والممر الالزامي لدول المنطقة مهما حاولوا تغيير المسارات.
نختم بالقول ان تاريخ الشعوب يبقى الثابت والملهم الوحيد في المتغيرات الاستراتيجية، اما جغرافية الارض فهي التي تجعل من التاريخ شاهداً، وما يجمع سوريه ولبنان تاريخ من المسار والمصير المشترك و جغرافية صنعها الله، وحين تتكلم الجغرافية تتغير المعادلات و تتعطل كل اصناف الالغام.
المصدر: خاص