صناعة الأوهام صناعة رائجة، ولها مبتكرون ومروّجون وبائعون ومشترون. وهذه الصناعة لا تموت، بل وتزدهر في أوقات الأزمات.
في لبنان، أزمة مالية واقتصادية تبعث على يأس العديد من الناس من إمكان المعالجة. وقد يكون هذا اليأس مفتَعلاً من جانب من يسُوقون البلد الى غاية محدَّدة في زمن “صفقة القرن” الفظيعة.
لكن بعض تجار الأزمة من سياسيين وإعلاميين يعتقدون أن لا بأس باستعادة وهْم أن الترياق يكمن في دول الخليج الغنية بالنفط . دول الخليج لديها مال كثير كأكياس الرز- كما قال يوماً الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي- ويمكنها أن تضع بعضاً منه في عجلة الإقتصاد اللبناني لتحريكه، إما على شكل قروض ميسّرة، أو هِبات، أو حتى ودائع بالعملة الصعبة.
وهذا الأمل لا يزال وهماً حتى إشعار آخر للأسباب التالية:
1- السعودية وأخواتها المقرَّبات (الإمارات والبحرين خاصة) لم تخط خطوة إيجابية باتجاه الحكومة اللبنانية الجديدة، لا في دعوة رئيس الحكومة حسان دياب لزيارتها، ولا حتى في التهنئة. فكيف تأملون بمال منها؟
2- السعودية لم تقدم مساعدة مالية الى حكومة سعد الحريري، والأخير قريب إليها ومحسوب عليها، مهما لحق به من ضيم على يديها أو افترق عنها في بعض المواقف المحلية. فهل ستساعد – والحال هذه- حكومة تعتبرها قريبة من حزب الله أو محسوبة عليه، بصرف النظر عن صحة هذا التقدير؟!
3- السعودية لا تقدم العون المطلوب لدول أقرب إليها سياسياً وجغرافياً من لبنان وأشد ارتباطاً بمصالحها. خذوا مثلاً :الأردن الذي يغالبُ أزماته بصمت، وينوء تحت دَيْن ثقيل تجاوز العام الماضي حاجز 40 مليار دولار بما يمثل نحو 95 % من أجمالي الناتج المحلي، برغم أنه نظام ملكي وُضع مع المغرب تحت عباءة مجلس التعاون الخليجي عام 2011 لحماية الانظمة الملكية والمشيخات العربية من الهبّات الشعبية حينها. وكان التقدير يومها أن أي نظام ملكيّ أو أميريّ عربيّ يتعرض لزلزال، ستنتقل ارتداداته الى الدول المَلكية الأخرى الشقيقة. والبحرين التي تُعتبر إلى حد كبير محافظة سعودية تدخلت المملكة السعودية عسكرياً عام 2011 لحماية نظامها من انتفاضة مطلبية شعبية، تعاني هي الأخرى من أزمة اقتصادية حادة وديون لا تجد من يجبرها، وزاد دَينها العام عن 90 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. فهل يكون التعامل السعودي مع لبنان أفضل؟
4- السعودية نفسها تعاني منذ سنوات أزمة عجز في الموازنة وديون، برغم حيازتها ثروات نفطية طائلة وبضع مئات من مليارات الدولارات مودَعة على شكل سندات لدى الولايات المتحدة. ولجأت المملكة للخروج من أزمة السيولة إلى فرض ضرائب ورسوم كبيرة على مواطنيها للمرة الأولى في تاريخها وإلى حلْبِ خزائن أمراء العائلة الحاكمة، وعرضت جزءاً من أصول شركة أرامكو للبيع. وبالتالي، هي تبحث عن موارد مالية جديدة من خلال استغلال حقول نفطية مشتركة مع الكويت وغيرها.
5- أخيراً، وربما هذا هو الأهم، السعودية مهما بلغت ثقتها بمكانتها أو بموقفها لا تخرج عن مسار السياسة الأميركية. وفي لبنان يطبَّق فيلم أميركي يهدف الى وضع البلد تحت الضغط إلى حين الإستسلام لبعض الشروط المتعلقة بترسيم الحدود البحرية والبرية مع فلسطين المحتلة، والمرتبطة بالثروات النفطية والغازية المكتشفة، إضافة الى “خنق” المقاومة وشلّ إمكاناتها ومواردها، بحسب ما يبشر بومبيو ورجاله. والرياض لن تتحرك لتعطيل مثل هذا الهدف.
لا يزال بعض السياسيين والكُتاب الصحافيين يمارسون أفعال التمني في تشخيص الواقع اللبناني، من خلال رفض الخروج من ماضي “الكرم العربي” وتحديث معطياتهم حول سياسات الدول ومتغيراتها. لقد تحوّل زمن العائلة الحاكمة في السعودية، وهي تمارس القسوة مع شعبها ومع جيرانها، ولا تتصرف بالتأكيد كجمعية خيرية جاهزة لتقديم المال لمن يطلبه. وبوضوح أكبر، إن عقد الرهان مجدداً على الدعم الخليجي المالي هو انعكاس لرهان سياسي على ربط لبنان بالقاطرة التي تصبّ بنهاية المطاف في مجرى المشاريع الأميركية في المنطقة. وقد آن الأوان لأن يفيق لبنان من غفوته وأحلام اليقظة ويعتمد على نفسه للنهوض مجدداً، من دون رفض أية مساعدة غير مشروطة سياسياً قد تقدمها بعض الدول الصديقة. أما نموذج التواكل والتسول على أبواب الصناديق العربية والمكرمات والهِبات فقد أضحى من الماضي، وقد كان مرتبطاً في كل الأحوال بشروط ومعطيات لم تعد متوفرة.
المصدر: موقع المنار