أزمة البنزين في لبنان دليل على خواء الإدارة الحكومية في هذا البلد. كان لبنان في الماضي يستفيد من مصفاتي طرابلس والزهراني لتكرير النفط الخام وتحويله إلى مشتقات للاستخدام الحياتي، وهذا كان يوفر عملة صعبة باعتبار ان النفط الخام اقل كلفة من مشتقاته (البنزين والمازوت والكاز وغيرها). وكان بإمكان لبنان ان يصدر فائض البنزين إلى الخارج ليحقق ربحاً اضافياً.
لكن الحسابات الخاصة أقوى من حسابات الدولة والمصلحة العامة، بوجود شركات خاصة تتولى استيراد وتوزيع المحروقات، وقد يكون عليها ان تقفل أبوابها اذا عاودت المصفاتان العمل مجددا.
وبمناسبة قرب وصول البنزين الإيراني إلى لبنان، يمكن التطرق إلى تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا المجال. فقد تمكنت إيران من تحويل العقوبات الأميركية إلى فرصة للنهوض في العديد من المجالات. وأحد هذه المجالات هو انتاج البنزين الذي تدور به محركات السيارات وبعض انواع مولدات الكهرباء وغيرها.
كانت إيران تستورد البنزين حتى قبل سنوات قليلة خلت، عندما قررت الحكومة الأميركية فرض عقوبات على الشركات التي تورد البنزين إلى إيران لإشعال غضب الشعب ضد الحكومة، باعتبار ان البنزين مادة تمس كل مواطن تقريبا. وفي هذا الصدد، كشفت إحدى وثائق موقع ويكليكس ان جون سوليفان مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأميركي جو بايدن عام 2010 (مستشار الرئيس الأميركي حاليا أيضا) قال في إحدى البرقيات السرية:
“الإيرانيون لا ينتجون البنزين الخاص بهم، وبالمناسبة فإن الشعب الإيراني مستعد للتمرد وقلب هذا النظام، وإذا أردنا الضغط عليهم اقتصاديًا يمكن أن يحدث ذلك… إذا أخبرنا أي شركة نفط كبرى بأنه إذا تم بيع البنزين لإيران، بشكل مباشر أو غير مباشر، لا يمكنهم بعد ذلك بيع أي منتج نفطي في الولايات المتحدة، ومن ثم سيتوقفون عن بيع البنزين لإيران، وسيواجه الاقتصاد الإيراني مشاكل حقيقية. سيؤدي هذا، على أقل تقدير، إلى تحويل القيادة، وتراجع تطبيق الاستراتيجية النووية في إيران ويمكن أن يسقط النظام. هذا مهم وجيد…”.
استجاب القادة الإيرانيون للتحدي، فقاموا بتوسيع عمل مصافي النفط وإنشاء مصاف جديدة. تمكنت إيران خلال مدة وجيزة من تحقيق الاكتفاء الذاتي وزيادة، فتم تصدير الفائض إلى الدول المجاورة (ويتم شحن كميات من البنزين الإيراني برا او بحرا إلى باكستان وأفغانستان والإمارات وغيرها) .
من اللافت ان إيران التي تخضع ل “أقسى عقوبات في التاريخ”، كما تفاخرَ القادة الاميركيون مراراً، تحققُ عائدات مالية من صادرات البنزين لوحده بقيمة ثلاثة مليارات دولار سنويا، على ما ذكر حميد حسيني عضو مجلس إدارة اتحاد مصدري النفط والغاز والمنتجات البتروكيماوية الإيرانية في طهران لـ«رويترز».
وتكمن المفارقة في أن ايران تمكنت من التعويض عن النقص في صادرات النفط الخام بسبب العقوبات، بزيادة صادرات المواد المكررة والمنتجات البتروكيماوية التي بلغت وفق أرقام وزارة النفط والبنك المركزي الإيرانيَين قرابة 20 مليار دولار عام 2020، أي ضعف ما تجنيه من صادرات النفط الخام حاليا.
ومن المعلوم ان النفط الخام يجتذب شركات كبرى لديها الوسائل لتكرير النفط وبيعه بسعر أعلى. أما المشتقات المكررة مثل البنزين والمازوت التي تنتجها إيران في مصافيها فيمكن ان تجد زبائن اكثر في السوق الرسمية وغير الرسمية حيث تفضل حكومات وشركات صغيرة تفتقر للمصافي، الحصول على منتجات جاهزة للاستخدام.
وفي ضوء فارق التوفير بين الخام والمكرر، تطمح إيران الآن لتقليل صادراتها من الخام في السنوات المقبلة للتركيز على زيادة صادرات المشتقات النفطية بهدف تحقيق قفزة في عائداتها المالية وتفعيل العمل الصناعي في الداخل.
وقد بدأ العمل بالفعل في هذا الاتجاه، حيث ارتفعت صادرات البنزين الإيراني 600% على أساس سنوي في 2020 إلى ثمانية ملايين طن، بمعدل 180 ألف برميل يومياً.
وذكر مصدر مقرب من وزارة النفط الإيرانية لـ«رويترز» ان إيران تخصص حوالى مليوني برميل من النفط الخام يوميًا للمصافي المحلية، بينما تذهب نحو 500 ألف برميل فقط للصادرات.
العبرة من هذا العرض المعلوماتي الإشارة إلى أنه كان من الصعب أن تسلك إيران طريق الاستقلال في انتاج البنزين لولا تعرضها للحصار والحظر النفطي.
وهذا الدرس يمكن أن يطبقه لبنان بنجاح من خلال إعادة تشغيل مصفاتي طرابلس والزهراني للتخلص من أعباء الاستيراد المهلكة، إذ يستورد لبنان ما قيمته 1.4 مليار دولار من البنزين سنويا، وفق أرقام العام 2018 .
المصدر: موقع العهد