لا يمكن المرور على لجوء كيان الاحتلال لطرق أبواب الأمم المتحدة من دون وضع هذا النهج في مسار عكسي تسير به السياسة الصهيونية المشبعة بالحساسية والتحفظ حيال كل ما يمس المؤسسات والقانون الدولي الذي خرقه كيان الاحتلال بشكل فظ على مدار صراعه مع العرب، ولأن هذه الظاهرة الجديدة في الدبلوماسية الصهيونية تمثل علامة فارقة كبيرة في تاريخ هذه الدبلوماسية المتنكرة للقوانين والأعراف الدولية فإن ذلك يستوقفنا عند جملة من المعطيات و الاستنتاجات.
تنطلق هذه السياسة بالأساس من عامل العجز الذي بات يعانيه الاحتلال عن فرض شروطه بالقوة بعد أن قوضت المقاومة في لبنان وفلسطين قدرة الردع الصهيونية وافرغت كل عوامل القوة العسكرية من محتواها على مستوى الحسم وفرض الشروط السياسية ناهيك عن إمكانية تحقيق النصر العسكري الصريح غير القابل للتأويل وهذا ما ألزم قادة العدو بالبحث عن بدائل مختلفة ومنها الاستعانة بالمؤسسات الدولية لاستخدامها كأداة لخدمة مصالح إسرائيل الأمنية والسياسية.
من هذا المنطلق رأينا الحملة التي بدأها الاحتلال لتعديل مهام اليونيفيل في جنوب لبنان لتصبح هذه القوة وفق المطالب التي طرحها العدو بمثابة قوات حرس حدود تسير وفق الأوامر الإسرائيلية وتنفذ عملياتها على الأرض بناء على المعلومات التي يقدمها الجانب الصهيوني بحجة مراقبة مدى التزام حزب الله بالقرار الدولي 1701 وعليها بالتالي أن تبلغ مجلس الأمن مباشرة بأي اعتراض لبناني على أي مهمة تريد اليونيفيل تنفيذها وقد بلغت الوقاحة ببعض الدبلوماسيين الصهاينة إلى درجة الحديث عن أن الجيش الإسرائيلي يريد أن يستفيد من التقارير التي ترفعها القوة الدولية إلى مجلس الأمن كمستند قانوني يبرر للجيش الإسرائيلي تدمير القرى والمنشآت المدنية في الحرب المقبلة وبالتالي فإن المطالب الإسرائيلية تريد تحويل القوة الدولية إلى أداة في بنك الأهداف ضد لبنان على مستوى جمع المعلومات أو على مستوى إضفاء المشروعية على الجرائم التي يمكن أن يرتكبها جيش العدو ضد المدنيين لاحقا.
ومن الملاحظ أن ارتفاع صوت الدبلوماسية الصهيونية في الأمم المتحدة يمثل انعكاسا للدبلوماسية ألاميركية بالمطلق مع العدو والتي عبرت عنها المندوبة الأميركية في المؤسسة الأممية نيكي هيلي التي استعملت تعابير غير دبلوماسية عندما قالت إنها ستركل بحذائها كل من يواصل التمييز ضد إسرائيل في الأمم المتحدة. كما أنها هددت مجلس حقوق الإنسان بإيقاف التمويل الأميركي في حال نشر لائحة سوداء بأسماء الشركات التي تعمل داخل المستوطنات في شرقي القدس المحتلة والضفة الغربية، وشكلت هيلي أيضا مرتكزا أساسيا في الحملة من أجل تعديل مهام اليونيفيل متهمة اياها بعدم الفاعلية ضد حزب الله والتغاضي عن نشاطاته في منطقة عملياتها رغم رفض قائد اليونيفيل مايكل بيري هذه الاتهامات جملة وتفصيلا أمام هيلي أثناء زيارتها برفقة قادة جيش العدو للحدود الشمالية لفلسطين المحتلة.
لكن الأمر المثير للإستغراب هو السياسة غير المتوازنة التي يبديها الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش الذي عكس في زيارته الأخيرة محاباة واضحة للجانب الصهيوني عندما اجتمع بقادة العدو للاطلاع منهم على “معلومات” تخص نشاطات حزب الله في جنوب لبنان بحسب وسائل إعلام العدو والتي تزعم بحسب ما نقل هذا الإعلام مدى خرق الحزب للقرار 1701 للاستفادة من هذه المعلومات لتعديل مهام اليونيفيل بينما لا تبدي الأمم المتحدة ومجلس الأمن اهتماما بالتقارير اليومية التي تؤكدها قوات اليونيفيل حول خرق اسرائيل لهذا القرار برا وبحرا وجوا كما أن الأمم المتحدة فتحت أبوابها في خطوة شاذة أمام ضباط من جيش الاحتلال ليجولوا على مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن لإقناعهم بوجهة النظر الإسرائيلية حول تعديل مهام اليونيفيل.
حائط بالمحصلة فإن الأمم المتحدة موضوعة أمام اختبار جديد حول مدى مصداقيتها في التعامل مع القضايا الدولية وان كانت عاجزة في السابق عن الخروج من تحت عباءة التوازنات الدولية التي تفرض ما يريده اللاعبون الكبار فإن أخطر ما يمكن أن تصل إليه الآن هو تحولها إلى أداة لتمرير السياسات الصهيونية العدوانية وانحيازها لصالح تل أبيب بالكامل رغم انها بالنهاية لا يمكن أن تكون اكثر من حائط مبكى يلجأ إليه الاحتلال للشكوى بعد فشله في فرض شروطه وسياساته ولعل ما يمكن أن يؤشر الى هذه السياسة الأممية هو التقاء الأمين العام للمؤسسة الدولية بأهالي الأسرى الصهاينة لدى المقاومة في قطاع غزة ورفضه للقاء ذوي الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أثناء زيارته للقطاع.