أنباء الإرهاب الذي ضرب قلب العاصمة البريطانية لندن يوم أمس، وفي محيط البرلمان بالذات، والتي ترافقت مع تدابير وقائية بدأتها بعض الدول وسوف تتوالى دول أخرى وخاصة الأوروبية على اعتمادها، بحظر بعض شركات الطيران السماح للمسافرين نقل بعض التجهيزات الإلكترونية داخل مقصورة الركاب تلافياً لأن تكون هذه التجهيزات وسائل تفجير، هذه الأحداث والتدابير المتَّصلة بالإرهاب العابر للقارات والحدود جميعها غير مجدية، لأن الإرهاب فكرٌ متنقِّل، لا تقضي عليه سوى الإجراءات القمعية السياسية والإقتصادية وحتى العسكرية بحق الدول التي تموِّل الإرهاب وتستخدمه لإحراق العالم إنطلاقاً من بؤر “الثورات الربيعية” في الشرق الأوسط، دون الحاجة الى تطهير عرقي أو ديني في أوروبا وأميركا عبر انتخابات توصِل يمينيين متطرِّفين شعبويين يقضُون على البُنية الشعبية والنسيج الإجتماعي لبلدانهم، ويَضَعُون الزيت على النار دون جدوى.
وليست المملكة الهولندية التي شهِدَت انتخابات برلمانية مؤخراً، تلك الدولة التي ترغب بأن تتمتَّع بنفوذ سياسي أو عسكري على المستويين الأوروبي والدولي، وشعبها المعروف بِرَغد العيش والولاء للنظام الملكي العريق، موزَّع على أحزاب تتفاوت ما بين اليمين واليمين المتطرِّف والأحزاب اليسارية ضمن حياة ديمقراطية سليمة، لكن أن تغدو الإنتخابات الهولندية البرلمانية التي جَرَت الأسبوع الماضي محطّ أنظار وترقُّب من كل أوروبا لنتائجها، فلأن الناخب الهولندي المُعتدِل المُسالم وجد نفسه وسط تنافس أكثر من عشرين حزباً، أن خياره محصورٌ بين أكبر حزبين: الحزب الليبرالي بزعامة رئيس الوزراء “مارك روتي” الذي فاز بالعدد الأكبر من المقاعد، في حين حلت ثلاثة أحزاب بينها حزب الحرية اليميني المتطرف بزعامة “غيرت فيلدرز” بالتساوي في المركز الثاني ونال كل حزبٍ 15 مقعداً من أصل 150 تُشكِّل البرلمان الهولندي.
صحيح أن انتصار حزب رئيس الوزراء “مارك روتي” قد تعزَّز، نتيجة السجال الحاصل بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأن كلاً منهما حاول الإستفادة من التجييش القومي بمواجهة الآخر، و”روتي”، عبر رفضه السماح لوزيرين من حكومة أردوغان بالقدوم الى هولندا والترويج بين الأتراك المُقيمين فيها للإستفتاء على النظام الرئاسي تعزيزاً لسلطات الرئيس التركي، ذهب بعيداً بمواجهة أردوغان وهدَّده بأن “لا يحلم بدخول تركيا الى الإتحاد الأوروبي”، ورَدّ أردوغان جاء إسلامياً مُصطنعاً كعادته لتعزيز موقعه في الإستفتاء، لكن أول ثمن نتج عن سجالات الرجُلين وعن المواقف القومية لـ “روتي” قد دفَعه بقساوة في الإنتخابات الهولندية اليميني المتطرِّف “غيرت فيلدرز”، الذي لم يتمكن من المزايدة أكثر على خصمه.
وانهالت رسائل التهنئة الأوروبية على “روتي”، ليس فقط لشخصه ولتوجهات حزبه الليبرالي المعتدل، بل لإلحاقه الهزيمة بالمتطرِّف الشعبوي “فيلدرز”، الذي يتَّسِم خطابه بالعداء السافر للإسلام وتهديده بهدم المساجد في هولندا وطرد المسلمين منها.
ورسائل التهنئة خاصة من المفوضية الأوروبية في بروكسل، بانتصار اليمين المُعتدِل على اليمين الشعبوي المتطرِّف، عكست ارتياحاً أوروبياً اعتبر أن “التجربة الهولندية” مبشِّرة بعدم اجتياح “الفوضى الشعبوية” غير المسؤولة دولاً أوروبية أخرى عند أول استحقاق إنتخابي، خاصة أن فرنسا قادمة على استحقاق إنتخابات رئاسية في شهر أيار / مايو، وتليها انتخابات ألمانيا في الصيف المقبل.
الرابط بين هولندا وكلٍّ من فرنسا وألمانيا، ليس فقط تقارب الإستحقاقات الإنتخابية زمنياً، بل في التقارب بين أخطر ثلاثة زعماء شعبويين في هذه الدول الثلاث: “مارين لوبان” زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية والمرشَّحة لخوض الإنتخابات الرئاسية عن اليمين الفرنسي المتطرِّف، و”فراوكي بيتري” رئيسة الحزب الشعبوي الألماني “البديل من أجل ألمانيا”، التي تعتبر أن الإسلام ليس جزءاً من ألمانيا وترفض تشييد المساجد، وتشنّ حملات واسعة على المستشارة أنجيلا ميركل على خلفية سماحها للجوء مليون نازح الى ألمانيا، والثالث هو المُتشدِّد”غيرت فيلدرز” الذي هزمه وخيَّب آماله الشعب الهولندي.
وإذا كانت هولندا تستضيف عشرات الآلاف من المسلمين والمواطنين من أصول إفريقية وشرق أوسطية، فإن صعود اليمين المتطرِّف فيها – لو وصل الى الحكم – لا يُشكِّل شرخاً في بُنية مجتمعها بذات القدر الذي يُشكّله على كلٍّ من فرنسا وألمانيا، سيما وأن فرنسا يعيش فيها 7 ملايين مسلم من حملة الجنسية الفرنسية، وألمانيا يعيش فيها نحو 3 ملايين من الأتراك يُضاف إليهم حملة الجنسية الألمانية من غير الألمان، مما يعني أن وصول مارين لوبان الى الرئاسة في فرنسا أو انتصار ولو جزئي لـ “فراوكي بيتري” في ألمانيا سيُهدِّد النسيج الإجتماعي والأمن الداخلي للبلدين نتيجة السياسة العنصرية التي سوف تُمارس من حُكم شعبوي متطرِّف بحق مواطنين فرنسيين أو ألمان ذنبهم أن أوروبا تعيش زمن “الإسلامو فوبيا” رغم الدور الواضح لبعض أنظمة الحُكم الأورويية في تصدير الإرهابيين الى الشرق المُلتهِب.
وفي قراءة لتفاصيل المُناظرة الأولى التي جَرَت منذ أيام في فرنسا بين أقوى خمسة مرشحين للإنتخابات الرئاسية، فرانسوا فيون (يمين) وإيمانويل ماكرون (مستقل) ومارين لوبان (اليمين المتطرف) وبونوا هامون (يسار) وجان لوك ميلنشون (اليسار المتشدد)، بَرَز نهج التطرُّف في منطق الحوار لدى “مارين لوبان” بمواجهة خصومها، ونقتطع جزئية من هذا الحوار:
تهجمت لوبان على إيمانويل ماكرون متهمة إياه بدعم لباس “البوركيني”، ما أجبر الأخير على الرد بالقول إن هذا “افتراء”. وتابع: “لقد قلت أن البوركيني قضية عمومية، أنت تقعين في فخ التقسيم، أنت تصفين بالعار أكثر من 4 ملايين مسلم وتجعلينهم أعداء للجمهورية.. أنا ضد ذلك”. وعقبت لوبان قائلة: “أود أن نفكر في السيدات اللواتي يُفرض عليهن الحجاب”.
ليست المسألة بمستوى السماح أو المنع للباس “البوركيني”، ولا بارتداء الحجاب أو منعه، ولا بحظر حمل شارة الصليب وإزالة تماثيل للسيدة العذراء للدلالة على النظام العلماني في فرنسا، بل إن أوروبا ذات الإتنيات المتعددة باتت مُنقسِمة بين انتهاج القومية المتزمِّتة داخل كل دولة علمانية والتقوقع ضمن الحدود، أو انتهاج التطرُّف الطائفي في دول أخرى لمواجهة الزاحفين اليها عبر الحدود، وإذا كانت فرنسا وألمانيا قادمتان على انتخابات مصيرية، فعلى الناخبين فيهما قراءة “التجربة الهولندية” ومنع وصول اليمين المتطرِّف كي لا تنتقل اللعبة من الحرب على الإرهاب الى حربٍ داخلية سياسية قد تؤدي الى الفوضى واستفاقة الإتنيات التي تُطالب بالإستقلال عن الكيانات الحالية…
المصدر: موقع المنار