خمسة وسبعون عاماً على نكبة فلسطين وشعبها. إذا ما عدنا كلّ هذه السنين إلى الوراء، يحضر السؤال التالي: هل كان ليخطر ببال صُنّاع تلك النكبة من العصابات الصهيونية إلى الولايات المتحدة وبريطانيا إلى المتواطئين من العرب..، أن يبقى الفلسطينيون في أرضهم، أن لا يستسلموا رغم كل أشكال القهر، لا بل أن يصبحوا أكثر قوة مع كل ذكرى جديدة لنكبتهم؟.. لا يبدو أنه خطر لهم ذلك.
بدت استمرارية الصراع بعيدة كل البعد عن واقع من مورس ولا يزال بحقهم كل أشكال القتل والقمع والتهجير والأسر والحصار، وإلى جانب ذلك كله اغتيلت هويتهم، إذ تم التعتيم أو الغاء أو سرقة العديد من أوجه الثقافة الفلسطينية. المعادلة على الشكل التالي: جيلٌ جديد في الداخل مستسلم بعيدٌ بوعيه عن أحداث وأبعاد نكبة أجداده عام 1948، راض بما مُنح له من حقوق وهمية ومصدّقٌ للحلول الوسط الكاذبة (حلّ الدولتين، شعبان في دولة واحدة.. وغيرها)، أما في الخارج فجيل أغرقته مأساة الشتات في تفاصيل العيش، ومن خلال أدوات خبيثة كالتوطين ومناهج تعليم تفقده أي انتماء لوطنه الحقيقي وأحقية قضيته.
كل هذا لم يحدث بعد خمس وسبعين عاماً، ولو أن الأمور وقفت عند حدّ “عدم نسيان الأرض والهوية”، لكان بالإمكان الرهان على الأجيال المقبلة، على قاعدة أن الذاكرة تتضاءل مع مرور الزمن خصوصاً إذا لم تكن عرضة للمحفزات التي تبقيها حية. لكن أجيالاً سبعة تعاقبت بعد النكبة توارثت وأورثت ثورة ولادة، بُنيت على أساس صلب: مقاومة عسكرية متعاظمة متجددة تُذكّر عدوها كل يوم قولاً وفعلاً أنه كيانٌ مؤقت دخيل سينهار يوماً، وتفرض عليه تأهباً، وقلقاً مستمراً، فلا أمان ولا استقرار بالرغم من دعم خارجي ومقومات غير متكافئة إلى حد كبير.
الأعوام الأخيرة، كانت الأقسى على الاحتلال، تحديداً على البنيان الذي أُسس عليه الكيان: الردع. وهنا نذكر قلبه، لا محيطه الذي استحال في مثل هذه الأيام قبل ثلاث وعشرين عاماً كابوساً يؤرّقه، منذ لحظة خروجه من جنوب لبنان مذلولاً دون قيد أو شرط بحكم مقاومة باسلة، ليعلم أن الأخيرة ستوقظ مارداً آخر يوجه له الضربة القاضية.
من يشاهد الشاب العشريني عُدي التميمي وهو يقاوم المحتل حتى الطلقة الأخيرة، من يقرأ وصية الشهيد المطارد ابراهيم النابلسي، من يحلل جيداً أبعاد معركة “سيف القدس” منذ عامين، وكيف أن كل مشاريع التقسيم والتفرقة بين فصائل المقاومة الفلسطينية باءت بالفشل، إضافة إلى محاولات حصر قوى الرفض داخل سجن كبير (قطاع غزة)، مع ضخّ إعلامي مهول رافق اتفاقيات التطبيع بأن “اسرائيل باتت دولة معترف بها عربياً أي أن الصراع العربي الاسرائيلي انتهى”، من يطلع على معارك الأسرى في سجونهم ويقرأ قصة أبطال نفق جلبوع، من يدرك أن المقاومة في فلسطين باتت جزءاً من محور كبير يمتد من ايران إلى اليمن والعراق ولبنان وسوريا، وكيف أنه بعد سبعة عقود لا يستطيع هذا الكيان ضمان أمن أي بقعة فيه، وكيف أن الصواريخ بقيت تنهمر وتضرب عمقه حتى بعد قتل ستة من قياديي المقاومة، من يطلع على كل ذلك وأكثر، يرفض مصطلح “النكبة”، يراه ظالماً لشعب يصنع معجزته باللحم الحي.
في ذكراها، لا نكبة بعد الآن، بل انتصارات متعاقبة ومتراكمة، إنها نكبة “اسرائيل”.
المصدر: موقع المنار