خطوة لافتة ومتقدمة أقدمت عليها دبلوماسية الصين، تمثلت بزيارة المبعوث الخاص للحكومة الصينية إلى الشرق الأوسط تشاي جون، وذلك بعد طول انكفاء عن المشهد السياسي، والامتناع عن الانخراط في مشاكل بلادنا العربية.
زيارة المبعوث الصيني إلى لبنان وسورية، لم تأت من باب الاستكشاف كما جرت العادة، بيد أن الصين قررت الانخراط في المنطقة مزخرة بثقة عالية، بالاستناد إلى الإنجاز التاريخي، المتمثل باتفاق طهران والرياض بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بضمانة بكين، الأمر الذي شكل اختراقاً صينياً مهماً لمنطقة النفوذ الأميركي.
إن أهم تغيّر إيجابي على مستوى العالم، تمثَّل بالدور الصيني المتصاعد بشكل هادئ ومتوازن، فالصين بهذا الدور المتجدد، قدمت نموذجاً جديداً وموثوقاً في السياسة والاقتصاد والتنمية والثقافة، ولاسيما أن المبدأ الصيني المعلن، قائم على أساس تحقيق الأمن والاستقرار والنمو، على قاعدة رابح رابح للجميع.
لا غلو بالقول إن العالم كله اليوم أصبح بحاجة ماسة للحضور الصيني، السياسي والاقتصادي، لإعادة التوازن للوضع العالمي، وخاصةً أن الصين تكتسب ثقة الشعوب، التي لطالما عانت من استبداد وتحكم الولايات المتحدة، بإدارة دول العالم ومنها دول منطقة الشرق الأوسط.
الصين وفي مقاربتها العادلة والمتزنة للملفات الشائكة، بدءاً من إنهاء الخلاف الإيراني السعودي، مروراً بملف النزاع الروسي الغربي في أوكرانيا، وإقدامها على طرح مبادرة لافتة لحل النزاع، قائمة على احترام سيادة الدول طبقاً لقرارات مجلس الأمن، ونيتها لبناء مشروع طريق الحرير، لربط الدول بعضها مع بعضٍ وتشبيك المصالح والعمل على التنمية المستدامة للشعوب، إضافة إلى مشروع السلام العالمي، أثبتت أنها دولة وازنة لا تريد إزاحة أميركا عن مكانتها، ولا تسعى إلى معاداتها، بيد أن الصين تريد مشاركة سياسية واقتصادية وتنموية فعلية، مع مختلف الدول لاعتماد نظام عالمي جديد، مشترك ومتعدد الأقطاب، أكثر عدلاً من النظام الأميركي المتوحش الأحادي، القائم على الاحتكار والغطرسة وفرض الإرادات وحرمان الشعوب من الاستفادة من ثرواتها.
فأميركا فرضت على سورية ولم تزل عقوبات جائرة حارمة الشعب السوري بذلك، من أبسط حقوقه الحياتية والإنسانية الكريمة، بعدما تقصدت أميركا نهب ثروات سورية وتجويع شعبها كما فعلت ولم تزل في العراق وإيران واليمن والصومال وفنزويلا، الأمر الذي أودى بحياة الملايين من شعوب تلك الدول.
الصين مدت يد العون إلى سورية حين تعرضت الأخيرة إلى مأساة الزلزال المدمر، وما فتئت بالمطالبة باحترام سيادة الدول إضافة إلى محاولاتها المستمرة لحل القضية الفلسطينية، واحترام حقوق الشعب الفلسطيني طبقاً لقرارات مجلس الأمن، في مقابل التعنت والصلف الأميركي المتمثل بالدعم المطلق للكيان الصهيوني المحتل لفلسطين، الساعي إلى تهويد مدينة القدس وطمس هويتها العربية على حساب الفلسطينيين.
إن الإيغال الأميركي في ممارسة سياسة العقوبات الاقتصادية على الدول الرافضة للإملاءات الأميركية، جعل من أي إدارة أميركية، مصدر تهديد دائم لأمن واقتصاد وتنمية المجتمعات، لمعظم دول منطقة الشرق الأوسط وحتى للصين نفسها التي تعاني من ممارسات عدوانية واستفزازات عسكرية أميركية متواصلة في بحر الصين، وهذا الأمر الذي شكل تهديداً واضحاً ومستمراً لأمن الصين الإستراتيجي ولمسيرة التطور التكنولوجي والتنمية البشرية فيها.
إن الصين لم تستبيح الأمن في بلادنا ولم تضع الخطط لتقسيم سبع دول عربية، ولم تتوسط لوأد الحروب في بلادناالعربية، طمعاً في الحصول على المال العربي، من خلال الطلب وشراء الاسلحة الاميركية، وتشغيل المصانع الحربية فيها، والصين لم تسهم في تغذية النعرات الطائفية والمذهبية، ولم تجبر بعض دول الخليج على تمويل تنظيمات إرهابية جيء بها خصيصاً لتفتيت بلادنا ومجتمعاتنا، والصين لم تسع إلى تدمير وطمس ثقافة وحضارة وتاريخ دولنا العربية، ولم تحاول فرض ثقافة الفساد وترويج زواج المثليين في بلادنا بذريعة الحفاظ على حقوق الإنسان، والصين لم تقم الحرب على فيتنام، ولم تفرض حصارها على كوبا وفنزويلا وإيران وسورية، والصين لم تشن الحرب الشعواء على أفغانستان، ولم تعلن الحرب على العراق لأسباب واهية ثبت للعالم بأنها مجرد ادعاءات كاذبة تسببت بقتل الملايين، والصين لم تحتل مناطق في شمال سورية، ولم تسهم في تشريد الملايين من السوريين والعراقيين، والصين لم تزرع الفوضى والفساد والجوع والإفلاس في لبنان، والصين لم تحاول يوماً طمس القضية الفلسطينية ومنع الفلسطينيين ومن الحصول على حقوقهم المشروعة، والصين لم تستول على مقدرات وثروات دولنا ودول إفريقيا مثل ليبيا والسودان والصومال، لكن كل ما أعرضت عنه الصين، وذكر آنفاً أقدمت أميركا على فعله وبوحشية ضد الإنسانية، وخارج نطاق الأعراف والأخلاق والمبادئ، وفي تجاوز فاضح للقانون الدولي.
مما لا شك فيه أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الصيني والأوكراني, كان بنية الصين لايجاد مخارج من شأنها وأد الحرب الدائرة في أوكرانيا من خلال المبادرة الصينية الهادفة إرساء الأمن لكل من روسيا وأوكرانيا، بينما أميركا تسعى بكل جهدها إلى استعار أوار الحرب الدائرة في أوكرانيا غير عابئة بمصالح أوكرانيا ولا بالمصالح الاقتصادية لحلفائها في دول أوروبا.
لطالما كانت المواجهة العالمية اليوم اقتصادية بالدرجة الأولى، فإن التحرر من قيد التعامل بالدولار الأميركي أصبح ضرورياً، وتستطيع الصين عبر دورها الفاعل مع دول البريكس، أن تؤدي دوراً قيادياً في هذا المجال، إضافة لخيار اعتماد اليوان الصيني في التعاملات التجارية بين الدول.
لم تعد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان عناوين أميركية براقة يمكن تصديقها، لأن تحت تلك العناوين شنت أميركا حروباً مدمرة، وقامت بتفتيت دول مثل الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا، ولم تحقق أياً منها في أي بلد، ولقد ثبت بما لا يقبل الشك أن النيات الأميركية هدامة للهوية ولثقافة بلادنا ولحضارة شعبنا العربي، فأميركا مثال فاضح على ممارسة التضليل والكذب والاستبداد وقهر الشعوب، أما الصين فيمكننا النظر إليها وبكل ثقة كشريك عادل وموثوق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وخصوصاً أن تحالفها ودول البريكس يشكل مساحة دولية قوية، قادرة على صناعة نظام دولي جديد عادل ومتعدد الأقطاب، قائم على احترام ثقافة وحضارة وتاريخ الدول.
في العام 2001 وعقب تعرض أميركا لهجوم إرهابي، نتج عنه تدمير مركز التجارة العالمية في نيويورك، حينها تصدر الإعلام الأميركي سؤال: «لماذا يكروهننا؟!» مع تجاهل المسببات، ووقتها لم يجرؤ أحد على البوح بالجواب الصريح، أما الآن وبعدما برزت الصين بدورها المتصاعد المتوازن لإحلال السلام والتنمية أضحى الجواب الصيني على التساؤل الأميركي واضحاً لا لبس فيه.
المصدر: بريد الموقع