بسم الله الرحمن الرحيم
نص الخطبة
كاظم الغيظ
[وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين]
نعزي المسلمين والمؤمنين والموالين بشهادة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) التي كانت في الخامس والعشرين من شهر رجب في سنة 183هـ وهو في الخامسة والخمسين من عمره الشريف. والإمام الكاظم (ع) هو الإمام السابع من أئمة أهل البيت (ع) ولد سنة 128 هـ ونشأ وتربى في ظل أبيه الإمام الصادق (ع) وعاش معه عشرين سنة, حيث كانت وفاة الإمام الصادق (ع) سنة 148هـ، فانتقلت الإمامة والولاية والقيادة إلى الإمام الكاظم (ع) وتحمل مسؤولياتها وأعباءها مدة خمسة وثلاثين سنة. إلى أن استشهد مسموماً في بغداد.
لقد تحلى الإمام الكاظم (ع) كآبائه(ع) بأخلاق رسالية عالية, وبصفات تكشف عن فضله وكماله وعلو مقامه، كالحلم, والعفو, والتسامح, والكرم, وكظم الغيظ.
ومن أشهر ألقابه التي يُعرف بها هي هذه الصفة: الكاظم، وإنما سُمي بها لكثرة تجاوزه وحلمه وتسامحه وعفوه عمن كان يسيء إليه.
يقول ابن حجر عن الإمام الكاظم (ع) وارث الإمام الصادق (ع): هو وارثه (يعني للإمام الصادق “ع”) علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سُمي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب الحوائج ، وكان أعبد أهل زمانه، أعلمهم وأسخاهم.
وكظم الغيظ هو: هو التحكم بالغضب والسخط والانفعال.فعندما يواجه الإنسان إساءة تزعجه، أو تصرفاً يؤذيه ويستفزه, سواء في بيته من زوجته أو من أولاده أو الزوجة من زوجها، أو من جيرانه, أو في عمله من زبائنه أو زملائه في العمل.. فإنه ينفعل نفسياً, ويمتلأ قلبه غضباً وغيظاً، ولكن بدل أن يستجيب لانفعالاته وغضبه يسيطر عليهما ويضغط على مشاعره وأحاسيسه، فلا يصدر منه أي رد فعل انتقامي، ولا يُظهر غضبه وغيظه، ولا ينعكس غضبه على تصرفاته ولسانه وألفاظه، فإن هذا المستوى من الإرادة والتحكم وضبط الأعصاب والانفعالات, نسميه كظم الغيظ.. وهذا نحتاجه حتى عندما يستفزنا احد بكلمة او موقف يطلقه عبر وسائل التواصل، فان البعض يُستدرج على وسائل التواصل الى سجالات ونقاشت عقيمة ويستفز فلا يضبط لسانه عن الشتائم والسباب والالفاظ البذيئة التي لا تنسجم مع شخصية المؤمن ، كما ان البعض قد يجعله غضبه يقوم بتصرفات محرمة فيضرب ويقتل ويستخدم السلاح ويطلق النار وما شاكل ذلك، فكظم الغيظ هو أن تتحكم بانفعالاتك وتضبط أعصابك ولا تبدي ما في داخل نفسك من غضب عندما تواجه الإساءة, وهذا قمة الأخلاق.
ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى هذه القمة الأخلاقية إلا بالوعي والنضج وتهذيب النفس وتدريب النفس على الترفع عن الإساءات التي يواجهها من الجاهلين والحاقدين والخصوم, لأن طبيعة الإنسان عندما يتعرض له أحد بإساءة, أو يثيره بتصرف, أو يستفزه بكلمة أو بتصريح أو بموقف.. طبيعة الإنسان الأولية أنها تستجيب وتتفاعل مع الاستفزازات التي تحصل، فيندفع الإنسان تلقائياً للانتقام ولرد فعل، ويقع بسرعة تحت تأثير غضبه وانفعاله..
لكن إذا كان الإنسان قد ربى نفسه على الإيمان والتقوى, وكان يملك الوعي, فإنه يتحكم بأعصابه ويملك إرادته ولا ينساق مع غضبه وانفعالاته.
ولذلك فقد جعل الله كظم الغيظ من علامات وصفات المتقين, واستحق الكاظم لغيظه من الله سبحانه وتعالى عظيم الثواب والأجر, لأنه تصرف على خلاف ما تمليه عليه طبيعته وغريزته وانفعالاته.
ففي الحديث عن رسول الله (ص): من كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءاً يوم القيامة. يعني يُقبل على الله يوم القيامة وهو يرجو مغفرته ورحمته.
وعنه (ص) في حديث آخر: ما من جرعة أعظم أجراً عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله.
وكظم الغيظ يدل على قوة الإرادة، والقدرة على السيطرة والتحكم بالمشاعر والانفعالات والأعصاب، وهذه القدرة هي أهم من قوة العضلات وقوة الجسد.
البعض يعتقد بأن القوة هي أن يملك الانسان بنية جسدية قوية, أو عضلات مفتولة يستطيع من خلالها مواجهة الآخرين والتغلب عليهم, لكن رسول الله(ص) يعتبر القوة في شيء آخر, يعتبرها في قوة الإرادة’ والقدرة على السيطرة على الغضب, والتحكم بالانفعالات النفسية.
وهذا ما يؤكده الحديث الوارد عن أنس بن مالك: قال: إن النبي (ص) مرَّ بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان ما صارع أحداً إلا صرعه، فقال (ص): ألا أدلكم على من هو أشد منه ؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه، فغلبه وغلب شيطانه, وغلب شيطان صاحبه.
وكظم الغيظ الذي يستحق الإنسان عليه كل هذا الثواب والتقدير هو الذي يصدر من الإنسان القوي القادر على القيام بالرد والذي يملك شجاعة المواجهة، لا الذي يصدر من الإنسان الضعيف أو الجبان, فمن يُساء إليه ويعتدى عليه وعلى كرامته، أو يسلب شيء من حقوقه فينزعج ويغضب ويستفز وهو يملك القدرة على الرد والمواجهة, ولكنه لا يفعل ويقرر لجم غيظه لهدف أسمى ومصلحة أكبر وأهم, فهو الذي يتصف بصفة كظم الغيظ, وهو الذي يستحق ذلك الثواب العظيم من الله, وهو الجدير بالاحترام والتقدير والإكبار.
لقد جسد الإمام الكاظم (ع) هذا الخلق الرفيع في سيرته وحياته حتى أصبحت هذه الصفة لقباً ملازماً لإسمه, فقلما يقال للإمام (ع): موسى بن جعفر, بل يطلق عليه غالباً لقب: الإمام الكاظم,لأن صفة كظم الغيظ كأنها أصبحت جزءاً من شخصيته.
ويذكر المؤرخون العديد من الشواهد والمواقف التي ضرب الإمام (ع) فيها أروع الأمثلة على كظم الغيظ في تعامله الشخصي مع الآخرين، وكانت نتيجة هذا التعامل وهذه الأخلاق التأثير في أولئك المسيئين والمبغضين وتحويلهم إلى أشخاص محبين ومتعاطفي ومؤيدين.
فقد روي أن شخصاً كان يسيء للإمام ويسبه ويشتمه ويشتم جده أمير المؤمنين(ع) فأراد اتباع الإمام (ع) الإنتقام من ذلك الرجل، فنهاهم الإمام عن ذلك, وكان يتحمل الإساءات المتكررة من ذلك الرجل، وذات يوم سأل الإمام (ع) عن مكان إقامته، فقيل: إنه يزرع في بعض نواحي المدينة، فركب الإمام (ع) بغلته وذهب إليه، فوجده في مزرعته فأقبل نحوه فصاح الرجل: لا تطأ زرعنا, فتقدم الإمام إليه وجلس إلى جانبه وأخذ يلاطفه ويحدثه ثم قال له: كم غرمت في زرعك هذا؟
قال الرجل مئة دينار، فسأله الإمام: كم ترجو أن تصيب منه، قال الرجل: أنا لا أعلم الغيب، فقال الإمام: إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك منه؟ قال الرجل: أرجو أن يجئني منه مائتا دينار.
فأعطاه الإمام ثلاثمائة دينار وقال: هذه لك وزرعك على حاله.
وبعد هذه الحادثة تغير موقف الرجل من الإمام وزال حقده وصار يبدي الاحترام والتقدير له ولأهل البيت (ع).
هذه هي طريقة تعامل أهل البيت (ع) مع المسيئين وفي مواجهة الخصوم، كانوا يتعاملون بالحلم والعفوو التسامح, في الوقت الذي أباح لهم الشرع أن يتعاملوا بالشدة والقوة والانتقام, وكانوا يمتلكون القدرة على أن يتعاملوا مع المسيئين بذلك الأسلوب, لكنهم فضلوا التعامل بالتسامح كمنهج , وهذا المنهج هو منهج رسالي وقرآني..
طبعاً هذا لا يعني أن أئمتنا (ع) لم يغضبوا أمام حالات الانحراف ولم يواجهوا أعداء الدين والأمة.. بل كانوا أشداء في مواجهة الطغاة والمستكبرين، والمعتدين, والظالمين, الذين كانوا يهددون مصالح الأمة والدين.. أميرالمؤمنين (ع) واجههم في أكثر من موقع, وكذلك فعل الإمام الحسن(ع) والإمام الحسين (ع) في كربلاء.
ونحن اليوم لن نسكت عن الظلم الذي يلحق بالشعوب جراء السياسات الامريكية والغطرسة الامريكية والتدخلات الامريكية في شؤون الدول لاسيما في شؤون بلدنا. ما يجري اليوم في اوكرانيا يؤكد ان اميركا تدفع بحلفائها وادواتها نحو نزاعات وحروب ثم تخذلهم وتتخلى عنهم في وسط المعركة ولا تعطيهم سوى الكلام والوعود .
لقد حرضوا اوكرانيا وورطوها بحرب خاسرة مع روسيا ثم خرج الرئيس الامريكي في اليوم الاول من المعركة بالامس ليعلن انه لا يريد الدخول في الحرب في اوكرانيا، واعلنت وزارة الدفاع الفرنسية اليوم: ان لا احد في اوروبا ولا الولايات المتحدة يريد الدخول في حرب مع روسيا.
كل التجارب السابقة والحالية تبرهن على ان اميركا تدفع بادواتها نحو المواجهة وتضعهم في الخطوط الامامية لتحقيق اهدافها وللدفاع عن مصالحها، فاذا نجحوا تستثمر انجازاتهم واذا عجزوا وفشلوا تتخلى عنهم وتتركهم وحدهم في ساحة الصراع يواجهون مصيرهم بانفسهم ، وهذا ما حصل في افغانستان وفي لبنان وفي غيره ، فأمريكا تركت أصدقاءها في افغانستان، وتركت ادواتها في لبنان في مراحل عديدة وخانتهم وخذلتهم، وها هي اليوم تترك اصدقائها في اوكرانيا يواجهون مصيرهم لوحدهم، وهنا يجب أخذ العبرة من هذه التجربة، وعدم الرهان على الأمريكان.
اللبنانيون الذين لا يزالون يراهنون على الولايات المتحدة الى ان ياخذوا الدروس والعبر من التجارب السابقة ومما يجري في اوكرانيا وقبلها في افغانستان.
من يريد من اللبنانيين المراهنة على الوعود والضمانات الامريكية لحماية لبنان فليضع امامه ما يجري في اوكرانيا وليستمع جيدا لما يقوله الرئيس الاوكراني صباح اليوم :بان الغرب ترك اوكرانيا وحدها ويتحدث فقط عن دعمها بالكلام، ويقول نواجه هذه المعركة وحدنا وفي الحقيقة لا احد يريد ان يحارب معنا.
اميركا لا تعرف صديقا ولا حليفا والشيء الوحيد الذي تعرفه هو مصالحها.
اللبنانيون قادرون على حماية بلدهم بالشعب والمقاومة والجيش والقوى الامنية ولسنا بحاجة لاميركا لتحمي بلدنا وهذا ما اثبتته كل التجارب الماضية وتثبته الوقائع الحالية، وقد تمكنت الاجهزة الامنية وفرع المعلومات بجهود وقدرات ذاتية من كشف شبكة العملاء والمجموعات الارهابية التي كانت تخطط للتفجير في الضاحية وفي غيرها من المناطق اللبنانية، وحزب الله ينوه بكل جهد تقوم به الاجهزة الامنية لحماية لبنان من العملاء وشبكات التجسس والارهابيين .
اما موقف الخارجية اللبنانية من الصراع في اوكرانيا فهو موقف لافت ويطرح اكثر من علامة استفهام حول خلفياته، اذ ما هي مصلحة لبنان في الانحياز للموقف الامريكي في الصراع الدائر بين روسيا والغرب في اوكرانيا ؟
السياسة الخارجية للبنان يجب ان تراعي مصلحة لبنان لا المصالح الامريكية، ولا يصح ان تكون السياسة الخارجية سياسة انتقائية بحيث انه عندما يتعلق الامر بخصوم اميركا نصدر بيانات الادانة ولا يعود هناك سياسة نأي بالنفس، اما عندما يتعلق الامر باميركا وحلفائها مثل العدوان الامريكي السعودي على اليمن ننأى بانفسنا ونعتبر ان الامر لا يستحق الادانة، هذه ليست سياسة خارجية هذه تبعية للخارج تضر بسمعة لبنان والمصلحة اللبنانية.
المصدر: بريد الموقع