ليس من المتوقع ان تقر الولايات المتحدة بأن حملتها التشويهية لوقائع الامور في اوكرانيا وبحر البلطيق ، تحولت الى خطاب ممجوج لا يقارب الحقيقة بشيء ، وهي تعمل من رئيسها جو بايدن ، غير المتزن ، الى وزارة الخارجية ، الى المجمع الحربي ، اي البتاغون وغيره من الشركات العسكرية والامنية ، ليل نهار على بث “بروباغندا الغزو الروسي” لاراضي اوكرانيا، على الرغم من تكوّن قناعة لدى غالبية حلفاء واشنطن ، ان لا نية مطلقا لدى موسكو “بالغزو الافتراضي” من دون ان يعني ذلك ان تمرر روسيا ما تريده واشنطن من تموضعات عسكرية في البحرين البلطيق والاسود ، او نشر قوات اطلسية في اوكرانيا .
لم يفلح الاوروبيون المتطلعون الى علاقة جوار ندية وطيبة مع روسيا في ثني مروجي الحرب في الولايات المتحدة عن غاياتهم الشريرة التي يمكن ان تدفع اوروبا المنشغلة باقتصادياتها الثمن الاعلى، لا بل ان بعض الاوروبيين ، الذين ارتضوا ان يكونوا دمى اميركية ، يرددون ما تعلنه الادارة الاميركية رغم يقينهم خلاف ذلك ، بينما تهب رياح تمرد على الضغط الاميركي من اكبر دولتين اوروبيتين ، اي فرنسا والمانيا ، وقد عبر الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن ذلك خلافا عن بريطانيا التي تشرب الحليب الاميركي الفاسد ، بان باريس تتبع نهجا يقضي بضرورة التركيز على الأساليب الدبلوماسية حصرا في خفض التوترات المتصاعدة حول أوكرانيا وفي أوروبا عموما، ودعا إلى وضع “نظام جديد لأمن أوروبا” بالتنسيق مع حلف الناتو وروسيا. بينما اتخذت حكومة ألمانيا أيضا موقفا حذرا وترفض إمداد حكومة أوكرانيا بأسلحة فتاكة، على الرغم من الدعوات المتكررة من قبل كييف والضغط عليها من قبل دول أخرى كبريطانيا مع اصرار على وجوب أن تصدر الولايات المتحدة إعفاءات عن شركات الطاقة الغربية من عقوبات قد تفرضها على مصارف روسية لمنعها من التعاملات بالدولار.
ان بريطانيا التي تعيش شبه حالة ضياع منحوت بالارباك قد تبنت منذ بداية التصعيد الحالي نهجا صارما بحق روسيا وشرعت بإرسال طائرات محملة بأسلحة فتاكة ومعدات عسكرية إلى كييف، بالإضافة إلى مستشارين عسكريين يعملون على تدريب عناصر الجيش الأوكراني، لكنها قررت ارسال وزيري الدفاع والخارجية الى موسكو بعد محادثة بين رئيس وزرائها بوريس جونسون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يبدو انه تمكن من تغيير الهواجس من البريطاني الصلف، الذي عهد الى وزيريه الى “تحسين علاقات لندن مع موسكو، والسعي لوقف التصعيد”.
الا ان الصفعة الاقوى التي تلقتها واشنطن التي لا تزال تقرع طبول الحرب ، كانت من صاحب القضية التي بنتها واشنطن على قواعد هوائية ، فالرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي نفسه لم يعد يحتمل تخريش الاسطوانة الاميركية في تأجيج الوضع، وقال على الملأ لواشنطن ولكل الغربيين تحت جناحها، “كفوا عن افتعال التوترات ” حول مزاعم خطر “الغزو الروسي”لاوكرانيا. ولفت زيلينسكي إلى أن التقارير الإعلامية وتصريحات المسؤولين الأجانب عن مستجدات الوضع حول أوكرانيا تخلف انطباعا كأن هناك “حرب وتحركات قوات في الطرق وتعبئة عامة وتنقلات للناس”، مشددا على أن الأمر ليس كذلك، “لا نحتاج إلى هذا الذعر، بل نحتاج إلى استقرار اقتصاد دولتنا، لأن كل هذه الإشارات إلى أن “الحرب قادمة غدا” التي تصدر الآن حتى عن زعماء محترمين يقولون بشكل مباشر بعيدا عن اللغة الدبلوماسية إن الحرب قادمة غدا، تعني الذعر، خصوصا في الأسواق والقطاع المالي”.
بمعنى آخر اعلن زيلينسكي ان بلاده واقتصادها ضحية التصعيد الاميركي غير الواقعي ، وهذا الامر عكسه سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف، الذي قال كلاما لا يقبل التأويل : إن روسيا لا تهدد أوكرانيا بأي شكل من الأشكال، وكل تصريحات السلطات الأمريكية التي تزعم بعكس ذلك، “سخيفة تماما”و لا يوجد أي تهديد من جانب روسيا”. وأشار باتروشيف، إلى أن “الأوكرانيين أنفسهم، بما في ذلك العديد من المسؤولين، يعلنون “أنه لا يوجد تهديد.”لكن المسؤولين الأميركيين يقولون لا، ويزعمون بأن هناك تهديدا، وهم مستعدون للقتال، وتقديم الأسلحة، حتى آخر أوكراني”.
ان المفاجأة لاميركا من جانب اوكرانيا، هزت الحلف الاطلسي بحيث قال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، في تصريح تراجعي واضح إن التحالف لا يعرف ما هي النوايا الحقيقية للحكومة الروسية فيما يتعلق بأوكرانياوأن الحلف لا يخطط لإرسال قوات إلى أوكرانيا، في حالة نشوب صراع عسكري بين كييف وموسكو، و سيركز بدلا من ذلك على إمداد أوكرانيا بالأسلحة وصياغة إجراءات العقوبات ضد روسيا الاتحادية. واقر بخلافات عميقة بين مكونات الحلف بشأن اوكرانيا.
لا شك ان استياء الادارة الاميركية آخذ في التزايد لعدم الانصياع الاوكراني كاملا للشهوات الاميركية المحرمة ، وقد أكدت وسائل إعلام أمريكية أن الخلافات تتزايد بين واشنطن وكييف بشأن خطر تعرض أوكرانيا لـ”الغزو من قبل روسيا”،وقال بعضها أن صبر واشنطن إزاء زيلينسكي بدأ بالنفاد. ونقل موقع “بوك”عن ثلاثة مصادر في إدارة بايدن والكابيتول بان الرئيس الأوكراني “يصبح مزعجا ومثيرا للغضب وغير بناء على الإطلاق”. حتى ان شبكة “سي ان ان”جزمت أن المكالمة الهاتفية بشأن “الخطر الروسي” بين بايدن وزيلينسكي “لم تنجح” بسبب بروز خلافات بين الزعيمين بشأن مدى خطورة الوضع.
من الواضح ان الولايات المتحدة ستكون مضطرة للتراجع خطوة الى الوراء ، من ضمن عملية الهروب بشأن الضمانات الأمنية المطلوبة روسياً، وفي الاطار قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ان الولايات المتحدة والناتو يحاولان الهروب من المسؤولية بشأن القضايا الأمنية، ولن نسمح لأحد بتجاهل مصالحنا.
لقد استخلصت فيونا هيل وهي كانت مسؤولة شؤون روسيا واوراسيا في الاستخبارات القومية الاميركية بان” وضع الولايات المتحدة اليوم يشبه المأزق الذي كانت عليه روسيا في حقبة التسعينات – اي عندما انها الاتحاد السوفياتي- فهي ضعيفة بشدة على الجبهة الداخلية ، وفي موقف متراجع في الخارج، وينبغي ان تكون لعبة اميركا هي الاطول امداً، فهي تعاني مع الاوروبيين ، ولا يبدو انها سوف تتمكن من حشدهم خلفها.
هي بداية نهاية الوجود العسكري الاميركي في اوروبا الذي فرضته الادارة الاميركية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، رغم العمل على توسيع الناتو ، اي ان يكون هناك اعضاء محيطون بروسيا حينما يتمرد الاوروبيون الذين يريدون جيشا لهم بلا مظلة اميركية.
المصدر: خاص