أي صراع ينتهي بمفاوضات. وتبدأ المفاوضات عادة عندما يتبين – كما يقول كاتب وفيلسوف روما الشهير ماركوس توليوس شيشرون – إن “السلام الهش أفضل من المشاجرة الجيدة”.
عندئذ تصبح المفاوضات خيارا ليس فقط للأطراف المتنازعة نفسها، ولكن أيضا لجميع اللاعبين الآخرين الذين يشاركون بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع.
فهل وصلنا في الصراع في أوكرانيا الى خيار المفاوضات المقبول من قبل الجميع؟
المفاوضات كخيار وحيد تمليه وقائع مختلفة، ليس أولها، كما يتصور كثيرون، الوضع في الميدان، على أهميته في تحديد السقف لكل طرف متحارب على مائدة المفاوضات عند انطلاقها.
للصراع في أوكرانيا طبيعته الملازمة له والتي تختلف عن صراعات أخرى شهدتها الخريطة الجيوسياسة للعالم بعد الحرب العالمية الثانية، إبتداءً من الحرب الكورية، مرورا بالحرب في فيتنام وانتهاءً بالصراعات التي اندلعت على خلفية ما سمي بـ”الربيع العربي”.
ما يجري في أوكرانيا، ليس مجرد صدام مصالح بين روسيا والغرب الجماعي بقيادة واشنطن، ولكن أيضا اختبار لقدرة روسيا على فرض نفسها كلاعب رئيسي، إلى جانب الصين والولايات المتحدة، في بناء الهيكل المستقبلي للنظام العالمي ومنظومة العلاقات الدولية.
روسيا تنطلق من أن أوكرانيا هي امتدادها الجيوسياسي وانها ترتبط عضويا بها، بمعنى ان لهما جذورا تاريخية متشابكة. ومن هذا المفهوم فان أوكرانيا تشكل عمقاً استراتيجياً لروسيا. وهذه الحقيقة تحديدا دفعت النخب الغربية الى نبش جذور الخلافات التي شهدتها بعض محطات التاريخ المشترك الاوكراني الروسي، وإذكاء نيران الفتنة بين كييف وموسكو. التدخل الغربي (الاميركي في المقام الاول) أسفر عن خلع الرئيس الاوكراني الاسبق فكتور يانوكوفيتش، وإغتصاب السلطة من قبل قوى اليمين المتطرف، وفي المحصلة انتفاض جنوب وشرق أوكرانيا بضوء أخضر روسي ضد نظام الحكم في كييف إبان الانقلاب.
الحالة الجديدة التي تشكلت في اوكرانيا بعد ضم القرم الى روسيا وخروج مناطقة شاسعة من اقليم دونباس (دونيتسك ولوغانسك) من تحت سيطرة السلطات في كييف، وضعت اوروبا امام واقع جديد وهو ان الغرب الجماعي لم يعد المسّاح الطوبوغرافي الوحيد الذي يحتكر اعادة رسم الحدود على خريطة القارة العجوز. ومن وجهة النظر هذه، لم تكن عملية مينسك التفاوضية سوى فرصة لكسب الوقت استعدادا للنزال الكبير الذي نشهد طوره الساخن على الساحة الاوكرانية.
بالطبع، هناك عوامل اقليمية أخرى تؤثر في المشهد الاوكراني، لعل أبرزها الاطماع البولندية في مناطق غرب البلاد، وأطماع رومانية في منطقتي تشيرنوفتسي وأوديسا، تضاف اليهما تطلعات هنغاريا الى فرض الوصايا على المناطق التي تسكنها اقلية هنغارية في كارباتي.
لكن واشنطن تبقى اللاعب الاساسي في ملعب الغرب الجماعي. اما وارسو وبوخارست فتؤديان دور خط الوسط في افضل الاحوال. في حين تبحث بودابست عن مكاسب لها في أوكرانيا من خلال هامش المناورة الذي احتفظت به لنفسها مع موسكو.
ماذا في الميدان اليوم؟
بينما وصلت التعبئة العسكرية في أوكرانيا إلى طريق مسدود، يسجل الهجوم الأوكراني المضاد فشلا جديدا، بعد محاولة اختراق الدفاعات الروسية على محور أوريخوفا في اتجاه زاباروجيا. حالياً يسود المنطقة الجنوبية هدوء نسبي، تخللته ضربة روسية حساسة بالمسيرات، أخرجت ميناء “اسماعيل” الأوكراني مؤقتا عن الخدمة لينضم الى اسرة الموانئ الاوكرانية المعطلة جراء الضربات الروسية الاخيرة، ولا سيما ميناء أوديسا الرئيسي. يندرج هذا التطور ضمن مسار حرب الموانيء وكسر سلاسل التوريد والحصار البحري المتبادل بين روسيا والغرب. وفي هذا السياق تحديدا تأتي ايضا محاولة استهداف ميناء نوفوروسيسك، احد المنافذ الرئيسية لنفط بحر قزوين الى الاسواق، ناهيك عن كونه أهم ميناء للصادرات الروسية على البحر الاسود.
ميدانياً ايضا، نقلت تسريبات من مكتب الرئيس الأوكراني، أن قائد القوات البرية الكسندر سيرسكي، أفاد رئيسه فلاديمير زيلينسكي بإشكاليات وضع الجبهات على خط “باخموت- أرتيوموفسك” في محيط منطقة كليشيييفكا، التي تتم مهاجمتها على مدى الأشهر الثلاثة الماضية. فالقوات الروسية قد بدأت باستخدام الذخائر العنقودية بحسب التسريبات الأوكرانية، ما أدى الى ارتفاع أعداد القتلى بين الجنود الأوكرانيين واضطرار القوات المرابطة في المنطقة للتخلي عن بعض المواقع التي سرعان ما استولت عليها القوات الروسية. وتعمد القوات المسلحة الأوكرانية حاليا على زج قوات النخبة في مواجهات هذا الاتجاه في محاولة للاحتفاظ بجزء من المرتفعات المحيطة بكليشيييفكا.
التسريبات الأوكرانية تحدثت ايضا عن تغيير في التكتيكات القتالية لعملية “أزوف” (اتجاه الضربة الرئيسية للهجوم المضاد)، الأمر الذي بدأت الصحافة الغربية تتناوله بشكل متزايد.
بعض التقارير الصحفية الغربية يقول إنه بعد المحاولات الأولى للهجوم الأوكراني المضاد في اتجاه الجنوب، غيرت القوات المسلحة الأوكرانية تكتيكاتها العسكرية متجاهلة ما تعلمته من الغرب! أي بمعنى أنها لم تستفد من التدريبات والخبرات الغربية. فقادة أركان القوات المسلحة الأوكرانية ركزوا على تكتيك انهاك القوات الروسية بواسطة الضربات المدفعية والصاروخية بعيدة المدى، بتزامن مع تقدم مجموعات استطلاع هجومية صغيرة الحجم. الغرب الذي زود كييف بمئات المدرعات والآليات بات ينظر بريبة للتكتيكات الأوكرانية المتبعة.
وأشارت وكالة “Janes” البريطانية للمعلومات الاستخبارية إلى أن تكتيك هجمات المجموعات الصغيرة من المرجح أن يؤدي إلى خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، مقابل تحصيل مكاسب جغرافية ضئيلة لصالح القوات الأوكرانية.
في غضون ذلك، هناك شعور بالقلق في الدوائر العسكرية الاميركية من اعتماد القوات الأوكرانية على الأسلوب الكلاسيكي للقصف المدفعي والصاروخي المكثف، الذي يهدد بنفاد الذخيرة الغربية المحدودة اصلا. هذا التكتيك من وجهة النظر الغربية يجعل أوكرانيا تخوض حرب استنزاف خاسرة. في الوقت نفسه يفيد التقرير الاستخباري البريطاني أن اتباع تكتيك الهجوم الغربي لم يأتِ بنتائج مرجوة لأوكرانيا.
وبحسب خبراء غربيين فإن الالوية الأوكرانية خضعت لفترات تدريب متفاوتة من اربعة إلى ستة أسابيع على الأسلحة المختلفة، إلا أن تلك القوات ارتكبت أخطاء عديدة في بداية الهجوم المضاد أوائل حزيران/يونيو. هذا الأداء يثير تساؤلات غربية حول جودة التدريب وجدوى انفاق عشرات مليارات الدولارات على تسليح الاوكرانيين.
ما المتوقع في لقاء جدة؟
لا يبدو ان ساعة الصفر لاطلاق مفاوضات سلام قد اقتربت، ولا يبدو ان الميدان وصل الى مرحلة تجميد شامل، ولا يبدو ايضا ان مبادرات السلام الثلاث، الاوكرانية والافريقية والصينية ترضي ولو بالحد الادنى اطراف الصراع – اوكرانيا والغرب الجماعي من جهة وروسيا من جهة أخرى. صحيح ان لقاء جدة تريده اوكرانيا والغرب منصة لمناقشة مبادرة الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي بنقاطها العشر. ومفهوم تماما ان خصوم روسيا يريدون استغلال هذه المنصة لزيادة عزل موسكو دوليا. لكن عدم دعوة روسيا الى اللقاء وعدم رغبة دول مهمة مثل البرازيل والمكسيك، وعلى الارجح الصين، في حضوره بغياب الجانب الروسي، يجعل من هذا الاجتماع تظاهرة دعائية في المقام الاول. اوكرانيا والغرب سيقولان إنهما نجحا في زيادة عزلة روسيا. روسيا ستقول العكس تماما. اما السعودية – البلد المنظم للقاء – فسوف تسعى لتظهر كقوة تتخطى حدودها الاقليمية لتلعب مع الكبار في ايجاد حلول لقضايا عالمية. وفي الوقت نفسه، ستبدو في عيون العالم انها تقف على الحياد، لا تخضع للضغط الاميركي ولا تنحاز لروسيا.
في الصراع الذي نشهده في أوكرانيا لن يكون هناك رابحون ولا خاسرون. يجب أن يكون واضحا للجميع أن هزيمة قوة نووية فيه ستؤدي إلى حرب عالمية باستخدام الأسلحة النووية. لذلك، لا يوجد بديل للمفاوضات.
المفاوضات نفسها سيأتي موعدها بعد ان ترى النخب السياسية ان وقت التفاوض قد حان، ولكن ليس قبل ان ترتسم في الافق ملامح الخريطة السياسية لمرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية في روسيا في عام 2024 وفي الولايات المتحدة في عام 2025. وحتى ذلك الحين سيشهد الصراع في اوكرانيا جولات.
اعداد:
سلام العبيدي
أحمد حاج علي
المصدر: مركز اتجاهات