ليس في العالم اكذب من المنظومة الاميركية في اطلاق الشعارات ، كمقدمة طبيعية لانشاء قوى وجماعات موالية تمهيدا للسيطرة على الدول المستهدفة ، كي تكمل بها منظومة اجتماعية، سياسية ، اقتصادية وبالتالي ثقافية . وابرز الشعارات الكاذبة، الديمقراطية على الطريقة الاميركية ، والحرية في السياق نفسه ، الا ان شعار محاربة الفساد، في العقد الاخير تربع على عرش الشعارين سابقي الذكر ، كواحد من اهم الاسلحة الاميركية مقرونا بالعقوبات على من ينتقد الاسلوب الاميركي الوقح في تصنيف الفساد ، ويعفى من “عقوبة” تهمة الفساد كل من يرضخ للتوجيهات الاميركية ، وإن كان الفساد يعشعش في كل حناياه.
ليس غنيا عن القول ان العديد من المجتمعات الاميركية، وهي ليست مجتمعا واحدا بكل تأكيد قائمة على الفساد وبرعاية اعلى السلطات اكان في الدولة العميقة، او السلطة السطحية التي تستظلها الاجهزة الامنية لتحقيق الفساد العام ، ولتكون في يد هذه الاخيرة اوراق ضغط للي ذراع السلطة السطحية ساعة تشاء، بعد ان ورطتها الاجهزة بقضايا يقوم الابتزاز من خلالها ، باعتبار ان اي سلطة في العالم تتخذ قراراتها بناء على المعلومات الاستخبارية ، وهذا الامر يصح في المسائل الداخلية كما في المسائل الخارجية ، وهذا بالمفهوم السياسي قمة الفساد ، وان اتخذ الانتخابات احيانا ذريعة لتحقيق المآرب القذرة، لان الاجهزة توجه السلطات من خلال المعلومات التي تقدمها لها ، وهي تحجب عنها ما تشاء.
ولهذا انعكاس محوري على المجتمعات سيما ان الاعلام الذي يصنع عمليا الرأي العام يغذى بمعلومات في احيان كثيرة تقدر الاجهزة اهمية ترويجها، وكيفية ترويجها ، لتحصل على النتائج المطلوبة وفق منظورها، وفي احيان كثيرة ، لا تأتي حسابات الحقل على حسابات البيدر، فيظهر الفساد الحقيقي الى العلن، لتدفع السلطة السطحية الاثمان ، او يحصل الصراع ، والتنابذ احيانا.
في الآونة الاخيرة تداولت الاجهزة الاعلامية الاميركية، وبخفر ، معلومات يمكن ان تكون اكبر فضائح الفساد في العصر ليس فقط للقيمة المالية التي سرقت ، وانما لما تبطنه من لاانسانية مطلقة باتت من نسيج الادارة الاميركية .
لقد كشفت الخدمة السرية في الولايات المتحدة عن سرقة 100 مليار دولار على الأقل من أموال برامج الإغاثة المخصصة لمساعدة الشركات والأشخاص الذين فقدوا وظائفهم بسبب وباء كوفيد-19.، وفي هذا الاطار قال روي دوتسون، المنسق الوطني بالخدمة السرية لمكافحة عمليات الاحتيال الخاصة بأموال الإغاثة من الوباء، أن هذا التقييم يستند إلى القضايا التي تحقق فيها الخدمة السرية وبيانات من وزارة العمل وإدارة الأعمال الصغيرة، دون أن تشمل قضايا الاحتيال المتعلقة بالوباء والتي رفعتها وزارة العدل.
اذا دققنا قليلا في الرقم المالي ، وممن سرق وكم هو عدد المتورطين ، لا يمكن لاي شخص ان يتكهن بغير ان الادارة الاميركية ينخرها الفساد من رأسها الى اخمص قدميها ، في وقت تحاضر بالعفاف ، وتلقي الدروس على على شعوب الارض باهمية الحلم الاميركي ، الذي لا تعاطف انسانيا فيه ، وانما التحصيل المالي على جثث الاخوة والاحبة والاصدقاء المفترضن انهم ايضا ابناء الحلم والديار.
قالت الخدمة السرية ايضا إنها ضبطت أكثر من 1.2 مليار دولار أثناء التحقيق في قضايا الاحتيال في تأمينات البطالة والقروض، كما انها استعادت أكثر من 2.3 مليار دولار من الأموال التي تم الحصول عليها عن طريق الاحتيال.وأوضحت الخدمة السرية أن لديها أكثر من 900 تحقيق جنائي نشط في جرائم الاحتيال “الوبائي”، مع وجود قضايا في كل ولاية، مضيفة أنه تم اعتقال 100 شخص حتى الآن على صلة بهذه القضايا.
من جهتها، قالت وزارة العدل الأسبوع الماضي إن شعبة مكافحة الاحتيال التابعة لها قد رفعت دعاوى قضائية ضد أكثر من 150 متهما في أكثر من 95 قضية جنائية، وصادرت أكثر من 75 مليون دولار من العائدات النقدية المتأتية من أموال “برنامج حماية شيك الراتب” والتي تم الحصول عليها عن طريق الاحتيال، بالإضافة إلى العديد من الممتلكات العقارية والمواد الكمالية التي تم شراؤها بالأموال المسروقة.
ما ورد ليس مجرد حادثة عرضية ، ويمكن ان تكون هذه القضية محور عشرات الافلام والمسلسلات ، بما يعكس التركيبة السياسية والثقافية التي بنيت عليها المجتمعات الاميركية ، لتكون مجتمعا واحدا لم يتحقق بعد ، ومن الاهمية بمكان في هذا الاطار الاضاءة على استناجات الكاتب الاميركي “خوان كول” * ، الذي اعتبر ان الولايات المتحدة- بلده-هو اليوم الأكثر فساداً في العالم.
يقول كول ، في الولايات المتحدة، التي تبلغ قيمة اقتصادها 18 تريليون دولار في السنة، يتفشى فساد على نطاق واسع رغم كل المظاهر. وفي ما يلي بعض من أبرز المؤشرات على الفساد في أمريكا.
1 – قرار المحكمة العليا الأمريكية برفع جميع القيود عن تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين إلى مختلف المناصب الحكومية، وعدم وضع أي حدود قصوى لمثل هذه «التبرعات»، هو ذروة الفساد؛ لأنه يتيح عملياً شراء نتائج الانتخابات. وهذا ما يسميه بعض المعلقين ب«المال الأسود في الانتخابات».
2- الأثرياء هم في موقع جيد لرشوة السياسيين حتى يخفضوا الضرائب عن الأغنياء. وقد أبلغ الأخوان الثريان كوش، وأصحاب مليارات آخرون صراحة رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل، ورئيس مجلس النواب بول رايان (الجمهوري أيضاً) في 2017، أنه إذا لم يستطع الحزب الجمهوري، الذي يسيطر على سلطات الحكم الثلاث، تخفيض الضرائب عن رعاته المتبرعين الرئيسيين، فإن أي ملياردير لن يدعم الحزب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في 2018 (في نوفمبر/تشرين الثاني). وكانت هذه رسالة واضحة إلى مئات من أعضاء الكونجرس المستعدين لقبول رشاوى على شكل تبرعات انتخابية، والذين استجابوا للتهديد ومنحوا أثرى أثرياء أمريكا 1،5 تريليون دولار على شكل تخفيضات ضريبية.
وهذا التفاوت الفاضح في الثراء في أمريكا، هو شكل مفضوح من أشكال الفساد.
3- بدلاً من أن تكون لدينا حملات انتخابية ممولة من الأموال العامة، وتنظم خلال فترة قصيرة لنقل 3 أشهر فإن انتخاباتنا تستغرق سنتين، وتنفق خلالها أموال ضخمة على شكل «تبرعات انتخابية»، هي في الحقيقة رشاوى فعلية للمرشحين. وأحد الأمثلة البارزة، هو تبرعات شركات الأسلحة بملايين الدولارات لتمويل حملة جورج بوش، الذي سرعان ما كافأ «المتبرعين» بشن حرب العراق، التي كانت هذه الشركات أكبر المستفيدين منها.
4- المال والفساد يطالان وسائل إعلام رئيسية في الولايات المتحدة، حيث إن وسائل الإعلام هذه «تؤكد» مثلاً أن علماء المناخ ليسوا متأكدين من أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون هي فعلاً سبب الاحترار المناخي. وكثيراً ما تروج وسائل إعلام كبرى، لأكاذيب من أجل دعم مصالح كبريات شركات الوقود الأحفوري.
5- ميزانية الجيش الأمريكي متضخمة بشكل هائل، وهي تزيد على مجموع الميزانيات العسكرية للدول الكبرى الاثنتي عشرة التالية، بعد الولايات المتحدة. وهذا يصب في مصلحة المجمع العسكري الصناعي الذي يجني سنوياً أرباحاً خيالية من أموال دافعي الضرائب.
6- الولايات المتحدة لديها شبكة هائلة من معسكرات الاعتقال التي تسمى السجون، والتي تضم 2،2 مليون سجين. وهناك الآن اتجاه متعاظم نحو تخصيص السجون، ما يعكس فساد النظام القائم.
7- وكالة الأمن القومي المختصة في التجسس داخل الولايات المتحدة، هي بحد ذاتها شكل من أشكال الفساد، حيث إنها تضم حوالي 4 ملايين موظف حكومي، وتتعاقد مع أعداد هائلة من الشركات الخاصة لأغراض المراقبة، من المستبعد جداً ألّا يكون هناك تعامل بناء على معلومات سرية وأشكال فساد أخرى.
وتبعاً لكل ما سبق، لا يمكننا أن نتهم دول الجنوب بالفساد وقبول الرشاوى. والأمريكيون لا يعتبرون فاسدين لأنهم يتعاملون فقط بمقادير هائلة من المال. ومن يسرقون أموالاً تعد بتريليونات الدولارات لا يوصفون بأنهم فاسدون، وإنما بأنهم «محترمون».
________________________
* أكاديمي ومعلق أمريكي ، بروفيسور التاريخ في جامعة ميشيجان
المصدر: خاص