يعيش البلد مخاضاً عسيراً: يريد بعضهم إنتقالاً سريعاً من شتات الدولة الى الدولة من دون المرور بمرحلة انتقالية (الحلم السريع)، وبعضهم الآخر يريد نتائج ملموسة لإجراءات الحكومة الإقتصادية والإصلاحية (القناعة بالحد الأدنى من العيش الكريم)، وبعض ثالث لا يبحث عن هذا او ذاك: يريد تصفية حسابات سياسية مع الفرقاء الداعمين للحكومة (اللعب على حبال الأزمة). ومع تفكك حجر كورونا المجتمعي، نعود الى مشاهدة التحركات في الشارع لنسمع شعارات مختلفة غير متناسقة.
لا يختلف اثنان على أن الوضع المعيشي ومكافحة الفساد هما أولويتان لدى السواد الأعظم من الشعب بمختلف اتجاهاته، وعلى هاتين الأولويتين تُبنى الثقة بأية حكومة او سلطة. وعلى هذا يتحرك قسم من الناس للمطالبة بإيلائهما ما تستحقان من اهتمام. هناك تقدم في ضبط سعر صرف الدولار ولو جاء متأخراً او بطيئاً ويبقى محفوفاً بأسئلة عدة، وهناك معالجات بدأت تثمر لارتفاع أسعار بعض السلع وهي تُغالب رياح الأزمة التي تهبّ من كل جانب وتحتاج الى المزيد من الخطوات الجدية والحثيثة. لكن للناس ملاحظات وعتب وحتى استياء من مسار بعض الأمور في الفترة الأخيرة، حيث الحديث عن محاصصة في بعض التعيينات واقتصار ملاحقة الفساد على بعض الموظفين من درجات دنيا، وإذا ارتفع السقف قليلاً نرى استدعاءات سريعة أو توقيفات تنتهي بإطلاق سراح الموقوفين بكفالة وتسويات. ولذلك، فإن حركة القضاء تبقى محل رصد ومتابعة عامة، وإذا صلح القضاء صلحت ثقة العامة به وبالدولة. والمطلوب تغيير نوعي في هذا المجال.
مطالب فوق الأزمة
بعض الناشطين يتحركون في اتجاه مختلف عن المطالب المعيشية والإصلاحية الضرورية، حيث يدعون الى انتخابات نيابية مبكرة على أمل إحداث تغيير ما في المجلس والحكومة. ومن داخل هذا الفريق من يشترط أولاً تعديل قانون الانتخاب قبل إجراء الانتخابات، ليتسع نطاق السجال حول هذا المطلب.
ناشطون آخرون، وهم في غالبهم حزبيون أو متضررون من المسار السياسي الحالي، يريدون إسقاط الحكومة، من غير أن يقدّروا عواقب هذا الخيار. فليس واضحاً إذا كان تبديل الحكومة سيؤدي الى تغييرٍ أفضل، وليس واضحاً كذلك إذا كان ممكناً التوافق على حكومة بديلة، وليس واضحاً ثالثاً إذا كان التغيير سيتم من دون إضافة أضرار كبيرة الى الوضع الاقتصادي والمعيشي وإحداث مزيد من العطب في عمل الأجهزة الحكومية. وبصراحة، قد تكون هذه الحكومة قاصرة أو مقصرة في بعض الجوانب وضعيفة الجناح نسبياً قياساً الى الحكومات السياسية، لكنها ربما أقل الحكومات فساداً بالمقارنة مع سابقاتها، حيث كان العديد من الوزراء يشعرون بفائض قوة ويتحصنون بأحزابهم ومرجعياتهم السياسية ويخرقون القانون في نطاق عملهم الوزاري ويتحدّون القضاء، ولا داعي هنا لاستعادة شواهد معروفة. كما ان الحكومة الحالية أكثر الحكومات نشاطاً وحركة وأقلّها خلافات ومناكفات حول كل صغيرة وكبيرة، وتبدو برغم كل شيء فريق عمل أكثر تجانساً.
تكتيكات إنتهازية
وهناك فريق ثالث يستعجل الإنهيار لوضع لبنان تحت وصاية صندوق النقد الدولي من دون أية مناقشة، وهو يقدم لصندوق النقد كل الأسباب التي تدعو لعدم إعطاء الحكومة اللبنانية أية قروض في هذه المرحلة انتظاراً لنضوج الطبخة ! بل ويقفز قسم من هذا الفريق لملاقاة “قانون قيصر” الأميركي المعدّ لسوريا وحلفائها وكأنه إنجاز لمصلحة لبنان، علماً ان الأضرار الإقتصادية المترتبة على لبنان بسبب هذا القانون الأحادي توازي الأضرار التي تلحق بسوريا وشعبها. لكن يعتري هذا الفريق انقسامٌ تكتيكي بشأن التعامل مع المقاومة، حيث يُفصح بعض شتاته عن الدعوة الى نزع سلاحها، بينما يرى قسم آخر أن هذا الموضوع يمكن تأجيل البتّ به لأنه سيكون سبباً لشرذمة حملة التحشيد التي يقوم بها، لاسيما ان جهات حراكية عدة ترفض هذا الطلب من منطلق مبدئي، ويتحفظ آخرون عليه بسبب التوقيت والأولويات فحسْب وأعينُهم كانت ولا تزال على دفع جمهور المقاومة للنزول الى الشارع بعناوين مطلبية تمهيداً لتسديد ضربة معنوية وسياسية لقيادتها.
إذاً، ليست كل الإعتراضات سواءً في المنطلقات. هناك مطالب محقة تهدف الى تفعيل العمل الحكومي والقضائي وتحصينه من المداخلات السياسية ولابد من الإستماع إليها، وهناك مطالب سياسية جاهزة يتم إسقاطها على معاناة الناس بناء على فرضيات جاهزة مسبقاً. وبين هذا وذاك، يتذاكى بعضهم محاولاً تقديم المطالب المحقة كمقبّلات على أمل أن يقنع الناس لاحقاً بضرورة تناول طبق سلاح المقاومة، أو يتعامل مع المطالب الشعبية كطبق رئيسي ليترك “التحلية” بسلاح المقاومة الى مرحلة لاحقة، ولا فرق جوهرياً بين الوجهتين.
المصدر: موقع المنار