*
لم يقتنع بعض محبّي محور المقاومة بحجم الرد الصاروخي الايراني على اغتيال القائدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما، وفي ظنّهم أو توقعاتهم أن الرد ينبغي أن يكون أقوى أو أوسع بصرف النظر عن أية تداعيات محتملة. وفي المقابل، سخّف المعاندون لهذا المحور الرد حتى اعتبروه “مسرحية” متَّفقاً عليها بين أميركا والجمهورية الاسلامية.
وينطلق الفريق الأول من فكرة ان أية عملية لا تسفر عن وقوع عدد معتدّ به من القتلى بين الأميركيين لا تساعد في إعادة الإعتبار لمحور المقاومة الذي أصيب بضربة موجعة باغتيال سليماني وصحبه. ومعلوم في أوضاع مماثلة أن هدف العمل العسكري لا ينحصر بالضرورة في إيقاع خسائر بشرية في صفوف الخصم، بقدر ما يهدف الى ترجيح كفة الفريق القائم بهذا العمل لتكون يده العليا في المواجهة ووضع حد لغطرسة الطرف الآخر، وقد تحققَ ذلك بامتناع الجانب الأميركي عن اتخاذ أي اجراء جديد برغم ان قواعده تعرضت لضربة شديدة بعدد كبير من الصواريخ البالستية واعترف بتدمير طائرات ومنشآت.
وقد أوضح قائد القوة الصاروخية في ايران أمير علي حاجي زادة يوم الخميس هذا المعنى بتأكيده أن القوات الايرانية لم تكن تهدف بشكل أساسي الى قتل الجنود الاميركيين في قاعدة عين الأسد مثلاً، بل كانت تهدف الى ضرب غرفة القيادة ومنشآت أساسية فيها، وكان في إمكانها -لو أرادت- قتل نحو 500 جندي أميركي من خلال استهداف أماكن تمركز المشاة في القاعدة التي تمتد على مساحة واسعة.
وأقر الأميركيون بهذا المضمون بعد ظهر يوم الأربعاء عندما نقلت شبكة “سي ان ان” عن بعض مسؤولي إدارة ترامب أن “إيران كان بإمكانها توجيه صواريخها إلى المناطق التي يتمركز فيها الأمريكيون في القاعدة المقصوفة، لكنها لم تفعل ذلك عن قصد”، وكان تفسيرهم لذلك أن “إيران ربما تكون قد اختارت إرسال رسالة بدلاً من اتخاذ ما يكفي من الإجراءات لإثارة رد عسكري أمريكي كبير، وهي إشارة محتملة إلى أن الإدارة تبحث عن مبررات لتهدئة التوترات”. في وقت قال الجنرال مارك ميلي رئيس الاركان أن الهجوم الايراني يهدف إلى التسبب في أضرار هيكلية تدمر المركبات والمعدات والطائرات، وقتل الأفراد ايضاً.
وبصرف الأنظار عن الجدل بشأن الإصابات البشرية، وصلت رسالة الردع وتلقفها الجانب الأميركي كما يلي:
1- ايران هددت وفعلت، ولم تتراجع أمام التهديد الكثيف الذي أطلقه ترامب بهذا الشأن. وسبق للرئيس الأميركي أن توعد ايران بردٍ قاسٍ بعد إسقاط الطائرة التجسسية في حزيران الماضي، وبرر تراجعه حينذاك، شاكراً ايران لأنها امتنعت اختياراً عن إسقاط طائرة اخرى مرافقة كانت تحمل عدداً كبيراً من العسكريين الأميركيين.
2- ايران وجهت رسالة قوية وأعطت فكرة واضحة حول جزء من قدراتها الدفاعية، وكان هذا كافياً ليقتنع المسؤولون الأميركيون بأن لدى ايران الكثير، ففضّلوا عدم الرد. ولهذا في حد ذاته مدلول قوي بأن الولايات المتحدة أقوى قوة عسكرية في العالم تقبلت ضرب قواتها من دون أن تبادر الى ردٍ ولو شكلي. وفي المواجهات العسكرية، تُملي الضربة الأخيرة أحياناً شيئاً من الرجحان للطرف الذي يسددها. ونعرف من تاريخ المواجهة بين المقاومة في لبنان والكيان الصهيوني ان العدو بات يقر للمقاومة بحقها في ضرب قواته في حال قيامه بأي خرق جسيم، وهذا يثبّت حالة من التوازن والردع ويحمي كثيراً من الإمكانات والإنجازات، وهذا هو بيت القصيد.
ما سبق لا يعني ان الرد الايراني قد اكتمل، فالضربة الصاروخية مجرد “صفعة”، كما وصفها الإمام الخامنئي أمام وفد من أهل مدينة قم المقدسة يوم الخميس. الإغتيال الفظ ولّد استجابة معاكسة للهدف الأميركي الذي يريد صدم وعي ايران وحلفائها وترويعهم ودفعهم للخوف والتراجع أمام جبروت الولايات المتحدة. والهدف الإيراني المعاكس هو إبداء المزيد من الصلابة والجرأة والمبادرة، والرد المدروس والذكي هو جزء من هذه العناصر ويستجيب لمجموعة مصالح تتعلق بطبيعة بيئة الصراع الإقليمية والدولية.
الردود التالية ستأخذ أشكالاً غير تقليدية يبرع فيها محور المقاومة. في الماضي، كان للجمهورية الاسلامية دور لا يُنكر في استنزاف هذه القوات في العراق وأماكن أخرى يعرفها الأميركيون، وقد اعترفوا بأن العبوات الإيرانية الخارقة للدروع ساهمت في قتل نحو 700 جندي أميركي في العراق. الآن بعد اغتيال سليماني، فُتح حساب جديد أكثر تركيزاً سيصعّب على الولايات المتحدة الحفاظ على وجود دائم في سوريا والعراق وهدفها المعلن في وضع يدها على منشآت النفط فيهما، ويزيد من مصاعبها ربما في أفغانستان أيضاً. ونعلم أن هناك انفتاحاً إيرانياً على حركة طالبان ظهر الى العلن مؤخراً، يضاف الى الخيوط التي تشبكها طهران مع العديد من الأطراف الأفغانية الأخرى.
إذن، لا تتوقف حركة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن السعي الى تكوين بيئة ملائمة لتوسيع نطاق تأثير محور المقاومة، وهي لا تبحث عن ضربة قاضية واحدة للوجود الاميركي الإحتلالي في المنطقة. فطبيعة الصراع – على طريقة لعبة الملاكمة – تتطلب جولات متعددة، وفي كل جولةِ انتصارٍ تُسجَّل نقطة إضافية للطرف الذي يقول كلمته أخيراً ويمتلك التصميم والنفَس الطويل، وأي ضربة لا تكون قاضية تشكل بدماء الشهداء دافعاً جديداً لمراكمة عناصر القوة وحمايتها والإستعداد للمضي في هذا الطريق المصيري.
أما الفريق الذي اعتبر ما جرى مجرد “تمثيلية”، فليس لنا نقاش معه، لأنه آثر ان يقعد ويأخذ موقف المتفرج أو اللائذ بحمى أميركا، وهو في كل جولة يسخّف كل الإنتصارات التي يحققها محور المقاومة. وعندما يسقط منطقه هذا، يستعيد نظرية “المؤامرة” ليقول إن أميركا تهدي انتصاراً لإيران. وسبق أن قال بعضهم ان الإندحار الاسرائيلي عن لبنان عام 2000 تم لأن “اسرائيل” أرادت الإنسحاب تنفيذاً للقرار الدولي 425 او انها أرادت أن تقدم حزب الله بصورة المنتصر لغاية في نفسها. ماذا يمكن أن يقال لمثل هؤلاء الذي لا يُحسنون قراءة الحاضر ولا صُنعه؟!
وإنه لمن المثير للإنتباه أن الإسرائيلي قرأ على وجه السرعة ملامح السلوك الأميركي على ضوء ما جرى، من خلال إبداء أوساط اسرائيلية تخوفها من انسحاب ترامب بشكل مفاجئ من المنطقة أمام تصميم ايران وحلفائها على إخراج القوات الأميركية منها، ما سيضع اسرائيل لوحدها أمام تحدي هذا المحور، ولو انها ستستمر في الإعتماد على الدعم العسكري الاميركي الطارئ.
لننتظر ونرَ !
_________________________
* كاتب صحفي لبناني
المصدر: موقع المنار