بدأت قصة خروج النسخة العربية من كتاب «إعادة اكتشاف أميركا الشمالية» (هذا ما تقوله الأرض)» للكاتب الأميركي باري لوبيز (1945)، حين وقع بين يدي الفنانة والناشطة الفلسطينية تانيا تماري ناصر، التي وجدت فيه علاقة قوية بما حل بفلسطين وأهلها، وأهمية ترجمته إلى العربية.
هكذا بادرت ناصر إلى إجراء اتصالات ماراثونية مع لوبيز لتحصل منه على موافقة لا لترجمة الكتاب فقط، بل للمشاركة أيضاً في «احتفالية فلسطين للأدب» التي تقيمها الكاتبة المصرية أهداف سويف كل عام في مدن فلسطين المحتلة.
طارق حمدان/جريدة الاخبار
هكذا حظي باري لوبيز بأول ترجمة عربية له، والمكتبة العربية بكتاب لافت يرفع صوته عالياً ضد تاريخ مغيَّب من الانتهاك بحق الإنسان والطبيعة. الكتاب الذي صدرحديثاً بالتعاون بين «دار الناشر» في رام الله و«دار الأهلية» في عمان، وأعدّت ترجمته الباحثة الفلسطينية سيرين حليلة وراجعته الشاعرة الأردنية زليخة أبو ريشة؛ يبدأ بالحديث عن الساعات الأولى للغزو الإسباني؛ عندما انطلقت صرخة البحار بريمو من على متن السفينة «بينتا» التي كانت ضمن أسطول مبعوثي الملك فرديناند والملكة إيزابيلا بقيادة كريستوفر كولومبوس.
وبعد ساعات من وصول كولومبوس ورجاله إلى شواطئ «سامانا كاي» أو «غواناهاني» كما كانت تدعى لدى شعبها الأصلي «الأوراك»، بدأ الغزو باسم الملكية الجديدة في إسبانيا بالاستيلاء على المكان والسكان وكل ما يمكن حمله.
يقول لوبيز إن عملية الغزو هذه امتدت على مدى عقود كثيرة من الإجرام والهمجية تمثلت في القتل والاغتصاب والتعذيب والإذلال بحق الشعوب الأصلية لما يعرف الآن بأميركا.
ويورد لوبيز في كتابه أجزاء من شهادة القسيس بارتولوميو دي لاس كازاس الذي كان قد وصل إلى «العالم الجديد» مع البعثات الإسبانية التي سيصفها لاحقاً بـ«صاحبة نزعة الفظاظة والترويع» اتسمت بالجشع العنيف واللامحدود في السعي إلى الثروة.
يقتبس الكاتب عن بارتولوميو: «اغتصبوا ومزقوا أوصالاً وقطعوا رؤوساً، وأمام ناظري ارتُكبت هذه الأفعال اللاإنسانية والوحشية». وبحسب لوبيز، كان المستعمرون يقطعون أرجل الأطفال الذين كانوا يفرّون منهم، ويغطسون الناس بالصابون المغلي، وكانت الوحشية تبلغ فيهم أن يتراهنوا على من بإمكانه أن يشطر شخصاً إلى نصفين بضربة واحدة من سيفه، وكانوا يطلقون الكلاب لتلتهم «هندياً كأنه خنزير مشوي».
تلك الكلاب التي كانوا يقدمون الأطفال الرضع طعاماً لها، كل ذلك وأكثر حصل في «مجزرة ترفيهية طويلة».
هكذا إذاً كانت الطريق نحو «العالم الجديد المليء بالأذى، الذي سرعان ما تحول إلى سعي جامح وهائج نحو الثروة، مما حدد كيف ستكون عليه حال الأميركيتين.
وكان السعي وراء الممتلكات الشخصية منذ البداية يتم عبر سلسلة من الهجمات الإجرامية العشوائية نحو العبيد، الخشب، اللؤلؤ، الفرو، المعادن النفيسة، ثم بعد ذلك نحو الأراضي الزراعية والنفط والحديد الخام، من دون أي نهاية منظورة لهذه الفورة».
كل تلك الممارسات كانت تجري بافتراض حق إمبراطوري من الله ومرخص من الدولة، كما كان مبنياً على افتراض التفوق على الشعوب المحلية من ناحية العرق واللون والثقافة، وهذه الثقافة كانت تجد صداها في مذكرات المستعمرين، وفي خطابات سياسييهم في القرن التاسع عشر، وفي سياسات القرن العشرين.
يتحدث لوبيز في كتابه عن المجزرة الأطول في تاريخ البشرية، ويشير إلى الأجيال الحديثة التي لم تعتبر ولم تتصرف بطرق مختلفة، حيث ما زالت قرى فيتنام وغيرها من بقاع العالم تعاني من تبعات الغزو حتى الآن، ليعترف «نحن من قمنا بذلك، ونحن مستمرون في ذلك!».
ويطرح الكاتب سؤالاً عن الثروة التي كانت تتوقعها صرخة بورميو وكثيرين ممن كانوا على متن السفن الثلاث التي رست قبالة شواطئ الكاريبي، إذ لم يكونوا مهتمين باكتشاف «العالم الجديد» والاستماع إلى طيوره وتناول فاكهته والتعرف إلى الحياة المدهشة لشعب «الأرواك» أو الشعوب الأخرى، ومحاولة التحدث معهم، ويرى فيها الكاتب الثروة الحقيقية.
لم يكن المستعمرون الأوروبيون يرغبون في التحدث لا إلى الطبيعة ولا إلى الإنسان، لم يكن لديهم الوقت لهذا، كان الخيال محدوداً وسعيهم ينصب فقط نحو الذهب والعبيد ، تلك هي الثروة التي استطاعوا تخيلها. ولم يكلفوا أنفسهم طرح سؤال «من هم هؤلاء الناس وما هي هذه الأرض؟»
الكاتب الذي جاء إلى عالم الكتابة والأدب من خلال الفوتوغرافيا، إذ بدأ كمصور مهتم بالطبيعة، ساهمت خلفيته البيئية في إضفاء قيمة مضاعفة للكتاب. كثيراً ما قرأنا حول فترة الاستعمار الأوروبي لأميركا الشمالية وحول الفظائع التي ارتكبت هناك، ولكن قلَّما صادفتنا أعمال تسلط الضوء على الفظائع التي ارتكبت بحق الأرض والطبيعة، الأمر الذي انتبه إليه الكاتب: «من النادر أن نفكر بالجغرافيا، وكيف حدث أن قطن الناس في هذه الأرض أو تلك، ولذا لا بد أن نفعل ذلك الآن».
يسمي لوبيز تلك الجغرافيا ابتداء بـ«جزر البهاما»، مروراً بمناطق «الأباتشي» و«الشيروكي» حتى «كاتاوبا وهيتشيتي ونيموكوا»، ويسردها بما يشبه البكائية على الإرث الحقيقي الضائع، والخسارة الفادحة التي يسميها «خسارة المعرفة». إذ كان ثمة «أكثر من ألف ثقافة متميزة… ألف لغة مختلفة عن غيرها… ألف طريقة لكي نعرف، فكيف يمكن أن يقارن المرء بين امتلاك الذهب وبين الشعور الذي تمنحنا إياه معرفة كل ذلك بالتفاصيل الدقيقة».
ويعيد الكاتب تخيُّل الجغرافيا المطموسة والطبيعة المنقرضة من غابات شاسعة أصبحت جرداء، وأشجار وأزهار اختفت، وحيوانات «تعرف أكثر مما يعرف البشر» انقرضت، وكيف طُردت الطبيعة وتم تدميرها مادياً بفعل السيطرة الإمبريالية التي ساعدت حفنة من الناس على تكديس الثروة.
ويقول إنّ ما يعانيه الأميركيون اليوم هو بمثابة أزمة «ثقافة وسلوك». فبعد خمسمئة عام على رحلة السفن «نينا» و«بينتا» و«سانتا ماريا» وما حصل من سرقة واغتصاب وقتل، كل هذا ما زال يحدث حتى الآن بأشكال مختلفة.
يتحدث عن كذبة الحلم الأميركي، وكيف استحال إلى كابوس يعاني منه جزء كبير من الأميركيين. ذاك الحلم الذي بُني على شعوب تم محوها وبعدها على طبيعة خضعت لتاريخ طويل من الاستغلال وصل الاستنزاف بها إلى حد فقدان الناس وظائفهم، إذ لم تكف المواد الخام في الغابات وسواها لجعل جميع الناس أغنياء، أولئك الذين انتهى بهم الحال فقراء.
«ليس باستطاعتنا أن نهرب إلى الخلاء بحثاً عن مغامرة جديدة». لهذا يقترح الكاتب مخرجاً من هذه الأزمة يتمثل في إعادة اكتشاف القارة، وإعادة النظر إلى أميركا بعيداً عن الجشع وحب التملك، والإقامة فيها مرة ثانية كما لو أنها أول مرة، ومحاولة ترويض الوحش الذي أطلقه الاستعمار الأوروبي قبالة شواطئ «العالم الجديد» قبل خمسة قرون، عوضاً عن «الشلل في مواجهة الكارثة» التي لا تتمثل في أزمة سياسات أو قوانين أو إدارة فقط؛ بل بأزمة أخلاق عامة.
«إعادة اكتشاف أميركا الشمالية» أشبه بخطاب أو محاضرة طويلة، يأتي كمراجعة وإعادة تخيل للعالم المنتهَك. هو كتاب صغير عن الحياة التي انقرضت، عن أطول مجازر التاريخ وأبشعها، تلك التي تم العمل على طمرها ونسيانها من قبل الحكومات الأميركية المتعاقبة وبتواطؤ من العالم أجمع. هو ابتهال طويل ينهيه لوبيز باعتذار «سامحيني أيتها الأرض النازفة، لأنني وديع ولطيف مع هؤلاء الجزارين».
المصدر: جريدة الاخبار