مشهد الصناديق الخشبية والحديدية التي احتوت تماثيل وقطعا أثرية، من كل البقاع السورية، لا يغيب عن الذاكرة ، مشهد انذر حينها بخطر داهم طال الحضارة كما طال الإنسان.
بدأت تلك الحكاية مطلع سنة 2012 بعد انتشار الإرهاب في معظم الجغرافيا السورية، حيث برزت للعلن ظاهرة تحطيم وسرقة الآثار من قبل المجموعات التكفيرية، منها ما بدأ بقطع رأس تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان بمحافظة إدلب، والإتيان على تفجير معالم بكاملها في أماكن عديدة أشهرها معبد “بيل” التدمري، مرورا بمساحات شاسعة من التاريخ الموثّق بمعالم تشهد عليه منتشرة بأغلب البقاع السورية.
هنا بدأت الحكومة السورية بالتعاون مع مديرية الآثار والمتاحف، وتنفيذ ميداني من الجيش العربي السوري، بجمع ما تيسر من آثار في تدمر وحلب وسواها، ووضعها عبر صناديق، جلبتها إلى العاصمة وحصنتها ضمن المتحف الوطني، وهذا ما كلف الكثير ليس فقط من الجهد، إنما أيضا أرواح كان أشهرها عالم الآثار السوري خالد الأسعد إذ تكلّف برأسه المحتفظ بموسوعة عن آثار وتاريخ سورية، حين لم يقبل إرشاد “داعش” التكفيري إلى مدافن الآثار والذهب المركون منذ سالف التاريخ.
صدر بالتزامن قرار بتعليق الزيارات إلى المتحف الوطني، تحت حراسة مشددة، محتفظاً بمقهى صغير يستقبل رواده داخل حديقة المتحف الواسعة، ليغدو المتحف منذ ذاك الحين محمية حضارية لآثار لها أهميتها ليس على نطاق سورية، بل على مستوى العالم بأسره.
التماثيل الضخمة أربكت، لكن سرعان ما وُجدت الحلول ونُقلت بدورها إلى دمشق، وعندها بدأ الترميم لما هو محطم كي يعود إلى سابق عهده، استغرقت هذه العملية حوالي 6 سنوات من العمل الدؤوب، من تجميع وفرز ودراسات، وتوثيق وترميم، وبعدها إعادة توزيع وترتيب للعرض مجدداً في قاعات وممرات المتحف الوطني، بدءاً من ال 28 من تشرين الثاني يوم العودة تدفق التاريخ الإنساني مجدداً.
الأمر ليس بالعادي عند السوريين رغم كل ما مروا به من مآسي الحرب، إذ يعرف أغلبهم القيمة الإنسانية لما لديهم، لتعود دمشق مَحجّاً لكل مهتم بالآثار والحضارة من كل بقاع الأرض.
افتتاح رسمي دشنه وزير الثقافة السوري محمد الأحمد يوم أمس بحضور العديد من علماء الآثار العالميين، والكوادر السورية العاملة في هذا المجال، إلى جانب حشد من المواطنين.
جدران المتحف الوطني الحجرية توحي بمحتواه، وهي تسوّر مساحةً تبلغ حوال 3200 متراً مربعاً، يظهر مباشرة عند الدخول إليه واجهة قصر الحير متصدرة المشهد، يدخل عبرها الزوار إلى مكان المعروضات، تأسس المتحف عام 1919 بمساحة محدودة، وافتتح الرئيس شكري القوتلي رسميا المبنى البديل والحالي عام 1936.
معالم المتحف أبرزها واجهة قصر الحير الغربي، وواجهة قصر الحير الأموي الذي يعود إلى الخليفة هشام بن عبد الملك عام 727م ، كما تبرز بدايات الفن العربي الإسلامي المسمى الأرابيسك، كذلك المدفن التدمري المليء بالتماثيل النصفية العائدة لأسرة يرحال التدمرية معطية فكرة عن طقوس الدفن لدى التدمريين. وهناك أيضًا كنيس محلي رائع مزين باللوحات وبالرسوم كما في كل المباني السورية القديمة، وجد في مدينة دورا أوربوس على نهر الفرات، ويتميز هذا الكنيس برسومه الجدارية الرائعة التي تعود إلى حوالي العام 246 الميلادي. ثم هناك القاعة الشامية التي أعيد بناؤها، وهي منقولة من حي الحريقة الدمشقي ومن قصر بيت مردم بك، وتعود هذه القاعة إلى القرن الثامن عشر الميلادي، كما هناك أحد مداخل جامع يلبغا الذي كان قائما في ساحة المرجة وأعيد بناء هذا المدخل في حديقة المتحف.
إذا في الوسط من العاصمة السورية، يتربع المتحف الوطني على عرش الحضارة الإنسانية، يحمل ما تيسر له من شواهد على حقب تاريخية، ممتداً بمحتوياته عبر آلاف السنين، ليجد زائروه متسعاً من الأفق ليدركوا قيمة الارض التي يحيون عليها.