إستراتيجيات الدول تفرضها ثوابت الجغرافيا أولاً، ثم تحركها دواعي التاريخ ثانياً، وفق ما يقول المفكر المصري محمد حسنين هيكل. ويوضح جمال حمدان مفكر مصري آخر: “ربما تكون الجغرافيا صماء، لكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق أنّ التاريخ ظل الإنسان على الأرض، بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان”، مقولتان تستدعيهما الإطلالة على المشهد اليمني، الذي يستحيل فهمه دون الجغرافيا، ويصعبُ قراءة تعقيداته بعيداً عن التاريخ.
فأي وقع لثوابت الجغرافيا والتاريخ على اليمن؟ ماذا عن خارطتها السياسية؟ وماذا عن(أنصار الله)، من هم؟ وكيف تحولت الحركة إلى رقم صعب في جغرافيا مليئة بالتعقيدات، ومنطقة تعج بالأحداث.
تساؤلات يجيب عليها موقع قناة المنار في سلسلة من أجزاء.
اليمن: على وقع الجغرافيا
تقع دولة اليمن جنوب غرب شبه الجزيرة العربية في غربي آسيا. وهي تفصل بين السعودية (شمالاً) والبحر العربي وخليج عدن (جنوباً)، وتتوسط عُمان (شرقاً) والبحر الأحمر (غرباً).
ويكتسب موقع اليمن بُعداً استراتيجياً نظراً لتواجد مضيق باب المندب ضمن مياهها الاقليمية(الجنوب الغربي). ويُعد المضيق المذكور من أهم الممرات المائية في العالم. وتقسمه جزيرة ميون، التابعة لمحافظة تعز اليمنية، إلى قسمين: “باب اسكندر” (المضيق الصغير) – “دقة المايون” (المضيق الكبير)، وهي بالتالي تتحكم بمداخل المضيق.
تاريخياً، اعتبر مضيق باب المندب بمثابة الشريان الرئيسي للتجارة في العالم القديم، وكانت القوافل اليمنية وحدها تدير دفة التجارة بين الشرق والغرب، وبفضل ذلك استطاعت الحكومات الحفاظ على مركزها بإبقاء البحر الأحمر مغلقاً والتحكم بالموانئ البحرية. هذا الوضع فقدته اليمن في القرن الأول الميلادي بعد أن حوّلت معرفة “اتجاه الرياح الموسمية” طريق التجارة البحرية إلى المحيط الهندي، وفق ما يذكر الباحث اليمني عبدالملك العجري في كتابه “تأسيس الدولة الزيدية في اليمن”.
لاحقاً، ظلّت أهمية باب المندب محدودة حتى افتتاح قناة السويس عام 1869، ليتحول من تاريخه إلى ممر يربط المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر وقناة السويس. ويُعد اليوم من أهم ممرات النقل والمعابر على الطرق البحرية، بعد مضيق هرمز. وقد زادت أهمية مضيق باب المندب مع ازدياد أهمية النفط الخليجي، فيقدّر عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي في الاتجاهين، بأكثر من 21 ألف قطعة بحرية سنوياً (57 قطعة يومياً).
ويُؤثر المضيق من الناحية الأمنية والإقتصادية على عدة دول: السعودية وجيبوتي ومصر والسودان وأثيوبيا وإرتيريا. كما أن معركة النفوذ على مضيق هرمز، دفعت بالدول الاقليمية غيرها لبسط نفوذهم على باب المندب، فالقوى الكبرى وحليفاتها عملت على إقامة قواعد عسكرية قربه وحوله، كما أن للكيان الصهيوني نفوذ فيه بالتنسيق مع جيبوتي واثيوبيا.
ومما يُضاعف أهمية اليمن انتشار أكثر من 112 من جزرها البحرية على امتداد بحر العرب وخليج عدن، وأكثرها يقع في مياه البحر الأحمر. وتبلغ مساحة حدود اليمن الكلية 1746 كلم: 1458 كلم مع السعودية و288 مع عُمان. فيما يبلغ طول الشريط الساحلي 2006 كلم.
وبحسب احصائيات عام 2013، بلغ تعداد السكان اليمنيين أكثر من 24 مليون نسمة، مقابل 30 مليون مقيم في المملكة بينهم 20 مليون سعودي. وهنا لا بد من الإشارة إلى ما نقله سايمون هندرسون، الباحث في معهد واشنطن، عن ذُعر السعودية من جارتها الفقيرة اليمن، فيقول: “يعتقد العديد من المراقبين أن الاحصاءات السكانية السعودية غالباً ما تميل إلى إظهار أن عدد سكان المملكة أكبر من عدد سكان اليمن، الأمر الذي يؤثر سلباً على أي عملية انتقام لاسترجاع الأراضي التي فقدتها تاريخياً”.. وهي أراضٍ في نجران وجيزان وعسير، كانت السعودية وضعت يدها عليها بعد زوال حكم محمد على الادريس، الذي حكم جيزان، وتنازل الرئيس السابق علي عبدالله صالح عن الحق بها لصالح المملكة.
الدور القبلي ووقع التاريخ
ويقطن اليمن أغلبية شافعية تتمركز في الجنوب، وغالبية زيدية في الشمال، وأقليات صغيرة من الاسماعيلية والمسيحية واليهود، بحسب دراسة بعنوان” موقع اليمن الاستراتيجي يجعله محور صراع” أعدها موقع “أصفار”.
كما أن للبلد طبيعة قبلية واضحة، إذ تشكل القبائل قرابة 85% من سكان اليمن. فتعتبر القبيلة اليمنية ذات أهمية سياسية في بناء الدولة، وهي تشكل جزءًا من سلطتها، وتلعب دوراً رئيسياً في صناعة القرار السياسي، وتمتلك تأثيرا في منح الشرعية لسلطة ما، أو في معارضتها أو حتى في وقف كل قرار يتعارض مع مصالحها.
يقول عبد الملك العجري إن المجتمع القبلي في اليمن هو تاريخي، إذ تعتبر القبيلة فيه المكون الرئيس وأكثر العناصر الاجتماعية والسياسية فاعلية فيه. بُعد اليمن عن مركز الخلافة الاسلامية شكل عاملاً مانعاً لاحداث تحولات اجتماعية فارقة، فلم يتأثر النظام القبلي كثيراً بالاسلام الذي يركز على مفهوم الأمة الجامع، وظلت القبيلة لاعباً أساسياً في كل الأحداث التي شهدتها اليمن.
في بحث “القبيلة والسلطة… القوة والضعف”، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة عدن، د. سمير الشميري، إن القبيلة في اليمن حافظت على بقائها لعدة عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، منها: اشتراك القبائل في السلطة، ودورها في الصراعات الداخلية إلى جانب المساعدات الخارجية، بالاضافة إلى قوة العادات والتقاليد والتضامن القبلي ونزعة الانعزال وانتشار الأمية.
لعبت القبائل في اليمن دوراً في دعم ثورة أيلول/سبتمبر 1962 التي أطاحت بالنظام السياسي الذي حكم شمال اليمن والذي عُرف” بحكم الائمة الزيديين” لصالح الحكم الجمهوري. إبان الثورة وما تلاها من صراعات امتدت لسنوات استفاد بعض الثوار من إثارة الحساسية القبلية (القحطانيين) – الهاشمية (العدنانيين)، لكسب تأييد القبائل ضد “حكم الائمة” الهاشميين النسب كما يُشترط، علماً أن الثوار كان بينهم الهاشميون وغيرهم. في حديث لموقع المنار، يقول الباحث اليمني عبدالملك العجري إن الحرب الأهلية التي أعقبت خروج ثورة 1962 استخدمت النزعة ضد الهاشميين “بطريقة شكلت انحرافاً عن مبادئ الثورة، وخلقت نوعاً من التمييز ضد الهاشميين”، تراجعت في الثمانينات.
ورغم دعم المملكة العربية السعودية للإمام الزيدي ضد أنصار الجمهورية الذين تلقوا الدعم من جمال عبدالناصر الرئيس المصري الاسبق، إلا أن المملكة، التي اعتبرت أن قيام نظام جمهوري على حدودها يمثل تهديداً لها يُضاف إلى التهديد الذي كانت تراه في نفوذ عبدالناصر، اعترفت بالجمهورية اليمنية بعد خروج القوات المصرية من اليمن التي تدخلت لمساندة الثورة.
وفي العام 1963، دعمت القبائل ثورة تشرين الأول/أكتوبر (تحديداً في مناطق الجنوب) والتي خرجت ضد الاستعمار البريطاني، وفق ما جاء في ندوة استضافتها صنعاء عام 2008، حول الدور السياسي للقبيلة في اليمن.
ولا تزال القبائل اليمنية تحتفظ بالنفوذ ومراكز قوى مكنتها من صنع القرار السياسي للدولة، وأتاح لها فرص ممارسة الأنشطة الاقتصادية والسياسية من خلال انخراطها وعلاقتها بالأحزاب. في كتابه: “الحوثيون واليمن الجديد صراع الدين والقبيلة والجوار”، يقول د. سعود المولى إن السلطة اليمنية تشكلت من تحالف رموز عسكرية وقبلية وتجارية ورجال دين. ويضيف أن الأحزاب سعت لتوظيف القبائل لتحقيق مآربها ، بالمقابل سعت القبائل للاستفادة من الأحزاب في مراكز السلطة.
ففي اليمن يمنح قانون الانتخاب شيخ القبيلة صلاحية تحديد سن الناخب، وفي أي انتخابات تعتبر القبيلة أهم عامل مؤثر، وهو ما يفسر حصول مشايخ القبائل على أكثر من نصف مقاعد البرلمان اليمني. وعندما تعجز الدولة عن لعب أدوراها في المناطق النائية فإنها تعطي سلطات لمشايخ المنطقة بلعب دور الدولة وهذا ما اثر على ضعف قوه الدولة وزيادة قوه القبلية .
الوحدة اليمنية… والسعودية
يُشاع أن مؤسس المملكة العربية السعودية عبدالعزيز آل سعود حذّر أبناءه، وهو على فراش الموت، من السماح لليمن بالاتحاد. وهو ما يُفسر موقف السعودية الذي كان معرقلاً ورافضاً لأي وحدة بين شمال اليمن وجنوبه.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990، وبموجب اتفاقية بين علي عبدالله صالح الحاكم في الشمال وعلي سالم البيض الذي كان يمثل الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب… ورغم كل مساعي السعودية منذ العام 1972 لافشال الوحدة، توحدت الجمهورية العربية اليمنية(الشمال) مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (الجنوب) في 22 أيار/مايو من العام نفسه، ليرأسها صالح ويحتل البيض منصب نائبه، وحظيت الخطوة بمباركة ليبيا والعراق ومصر والولايات المتحدة الأميركية.
سارعت السعودية لاتهام اليمن بالتآمر على نظامها، ونشرت مرتزقة باكستانيين على الحدود مع اليمن، كما شنت حملة اعلامية ضد اليمن، وطردت قرابة نصف مليون عامل يمني من أراضيها ما انعكس سلباً على الاقتصاد اليمني، كما دعمت القبائل الرافضة للوحدة.
داخلياً، تحالف صالح مع القوى القبلية والدينية في حزب التجمع اليمني للاصلاح المكون من شخصيات سلفية وأخرى تابعة للاخوان المسلمين معارضة للوحدة مع الاشتراكيين، كما عقد الرئيس اليمني آنذلك تحالفات مع قوى جنوبية مناهضة للاشتراكيين.. وكان هدف صالح التخلص من الاشتراكيين، الشريك السياسي في اتفاقية الوحدة فأخذ يغض النظر عن المتشددين الذين شاركوا في معارك أفغانستان، وعادوا لينفذوا اغتيالات داخل اليمن.
بين عامي 1991 و1993 اغتيل 158 سياسياً من جنوب اليمن، ما فاقم الخلافات بين الاشتراكيين وصالح، الذي اتهم السعودية بالوقوف وراء الاغتيالات.
بعد انتخابات 1993، طالب الحزب الاشتراكي بحكم ذاتي لجنوب اليمن، وتمثيل متساو في مناصب الدولة بين الجنوبيين والشماليين، وساهم اكتشاف حقول نفطية جديدة في حضرموت في زيادة التوتر ما دفع بالبيض لرفض أي عرض لا يمنحه نصف السلطة.
في 20 أيار/ مايو 1994، اندلعت الحرب في اليمن. على اثرها، أعلن علي سالم البيض نفسه رئيساً لدولة الجنوب، التي لم يعترف بها الا السعودية التي نجحت في انتزاع اعتراف مماثل من الكوبت والبحرين والامارات. إلا أن هروب البيض شكل انتصاراً للوحدة اليمنية عام في تموز/ يوليو 1994.
الوحدة اليمنية، لم تعالج قضايا التهميش والاقصاء السياسي والاقتصادي للجنوبيين، بل إن هذه السياسات استفحلت بعد الوحدة. عام 2007، انطلق حراك شعبي في جنوب اليمن أطلقه عدد من المتقاعدين العسكريين والأمنيين المُسرحين من عملهم، وأُطلق عليه اسم “الحراك الجنوبي”، الذي تكون من أكثر من 60 فصيلاً وشخصية، طالب الحراك بالمساواة وإعادة المُسرحين، وبالاستقلال معتبراً أن جنوب اليمن بلد محتل من قبل اليمن الشمالي… وهو ما قاد إلى حملة اعتقال في صفوف قيادات الحراك عام 2008.
في شباط/ فبراير 2011، ومع خروج ثورة شعبية مطالبة برحيل الرئيس علي عبدالله صالح، انقسم الحراك الجنوبي بين من دعا لتجميد مطالب الحراك والانضمام للاحتجاجات، وآخر رفض تجميد مطالبه معلناً التمسك بالإنفصال… إلا أن الثورة تمكنت من الإطاحة بشخص الرئيس علي عبدالله صالح بعدما إضطرت السعودية تحت ضغط الشارع للتخلي عنه، رغم أن سياسات صالح، لاسيما حروبه في الشمال، حولته إلى حليف للمملكة.