هناك عقول لا تفنى، وإن غيّب الموت أجساد أصحابها، لأنها تبقى منارات تضيء عتمة الزمن. الشاعر خليل مطران ابن بعلبك، ما زال علما يكرّم رغم طول السنين، فانعقد على شرف تكريمه في قاعة “جمعية الشبيبة الخيرية” في بعلبك، المهرجان الثقافي الذي عُنون: “خليل مطران شاعر القطرين: تاريخاً وكتاباً وإنساناً”.
نظّم المهرجان الثقافي الملتقى الثقافي الجامعي ومجلة المنافذ الثقافية برعاية رئيس بلدية بعلبك الدكتور حسن حمد، بحضور النائب كامل الرفاعي وجمهرة من المهتمين بالشأن الثقافي.
وقد تحدّث في المهرجان عدد من الدكاترة، تمحورت محاضراتهم حول هذا الشاعر الفذ، وحول مدينة بعلبك بتاريخها العريق الذي تمتد جذوره ضاربة في عمق التاريخ، مروراً بهذا الوجه الذي أضاء سماءها وترك بصماته في المسار الشعري والأدبي الذي جاء بعده.
ويحقّ لخليل مطران أن يوصف بالشمس، ذاك أنه كان من الوجود البارزة في عصر النهضة وربما الوجه الأبرز في هذا العصر، إذ حرّك ركود الأدب آنذاك، وساهم مع غيره من أدباء عصره في إحداث تلك التغييرات المهمة، والتي أدخلت الشعر والأدب في طور من التجديد الذي يشهد له بأنه تحول إلى أساس يُبنى عليه لكل من جاء بعدهم.
ركّزت المحاضرات على الشاعر خليل مطران، الإنسان النبيل الذي اغترب عن وطنه بجسده، وبقي يحلق معه بروحه، وعلى أخلاقه، والثورة الفكرية التي صبغت شعره، محارباً للظلم والفساد، داعياً إلى الحياة الكريمة التي يرتقي معها الإنسان بإنسانيته وفكره، رافضاً الذل والخنوع للسلاطين والحكّام الظالمين.
افتتح المهرجان بالنشيد الوطني اللبناني، ثم كانت كلمة لعريفة الإحتفال الأستاذة فاطمة القرصيفي عن الحس الوطني والقومي التحرري للشاعر خليل مطران.
بعد ذلك ألقى رئيس بلدية بعلبك الدكتور حسن حمد كلمة جاء فيها:
“إن الجمعيات والمنتديات والهيئات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني هي شريكة المجلس البلدي في التنمية والتحفيز الثقافي، من خلال أعمال وأنشطة نهضوية هادفة،منطلقة من الصفاءا لفكري العاصف بالخير والإبداع والمحبة،ومبادرة إلى فرض وقعها وتأثيرها الإيجابي تعاون او شراكة لصيانة التاريخ والإرث الشعري والأدبي والثقافي والحضاري لمدينةالشمس”.
وقال: “إرث خليل مطران،سيرته،عطاءاته،فلسفته،شعره،ووقعه في عالم الفكر والأدب والإبداع، وثيق الارتباط بهذه الأرض وهذه المدينة الحالمة الهانئة المسالمة، والمصونة بتضحيات جسام من جيشنا الوطني وبواسل مجاهدينا وجرأة أقلامنا ورساخة معتقداتنا وأعرافنا،كي تبقى مدينة الشمس زاهية.” قسّم المهرجان إلى ثلاث جلسات،توّلت إدارة الجلسة الأولى الدكتور لينا زيتون.
تحدّث بدايةً الدكتور أنطونيوس بطرس وكانت محاضرته بعنوان: “خليل مطران والتجديد على صعيد الترجمة”.
ولفت الدكتور بطرس إلى أنه كان للشاعر خليل مطران باع طويل في مجال الترجمة، وترك فيه أثراً كبيراً، فهو كان قد سافر إلى فرنسا، وعاش فيها فترة من الزمن، فأتقن اللغة الفرنسية وأبدع فيها، ولذلك عمد إلى ترجمة الكثير من الأعمال الأدبية من الفرنسية إلى اللغة العربية، وجاءت ترجمته لهذه الأعمال سلسة متقنة كترجمة ابن المقفع لكتاب “كليلة ودمنة”، إذ كان يضفي على الترجمة من روحه، ويصيغها بأسلوبه الشعري الراقي حتى يجعلها تتآلف مع الذوق العربي واللغة العربية.
وركّز الدكتور بطرس في كلمته حول التغيير الذي جاء به خليل مطران، مع الرياح التي هبّت في مطلع عصر النهضة، والتي أطاحت بالعقول المتحجّرة آنذاك، فكان مجدداً في الصحافة وفي الترجمة وفي كل أعماله الأدبية التي جاء بها.
المسرحيات التي ترجمها مطران لشكسبير هي: “هملت”، “عطيل”، “تاجر البندقية”، “السيد” و”سنا”. وقد تأثر بشعر فيكتور هيوغو وأدبه، وإشاداته بأعمال شكسبير، مما دفعه إلى ترجمتها، ليثري بها المكتبة العربية. ولم يقتصر اهتمام الشاعر خليل مطران على النواحي الأدبية، بل امتدت لتشمل الاقتصاد والتاريخ والتربية.ويُعتبركتاب «مرآةا لأيام فى ملخص التاريخ العام»من أهم ترجماته في مجال التاريخ.
المحاضرة الثانية كانت للدكتورة إلهام صليبا حول تربية خليل مطران الكاثوليكية وأثرها في حياته وشعره. ومما جاء في المحاضرة: بما أن الشاعر من بعلبك، فإننا نتكلّم عنبعلبك وعن بيوت الشعراء، لأنها امتداد لك يا بعلبك. عن تربيته قالت: تربى خليل مطران متمسكاً بالقيم والعادات، تلقى مبادىء الكتابة وأصولا لحساب في مدرسة ابتدائية زحلة،(وعن الشاعر أنه قال إن روحي ولدت في زحلة)، ثم أرسله والده الىب ييروت فدرس في المدرسة البطريريكية، وتخرج منها. تهالك خليل مطران على الدرس والتحصيل وطالع بنهم كل ما وصل إلى يده من آثار كبار الكتاب والشعراء،ثم غادرالمدرسة وله ثقافة واسعة عربية وأوروبية.
كان يحمل في نفسه رسالة الكاهن الذي يقع على عاتقه تثقيف الفتيان والفتيات والدعوة إلى التعليم الشامل والمنفتح. أما الرهبان فقد أحبهم، وزاده العلم حباً بهم لما لقي عندهم من زهد وترفع عن الدنيا، فكان الصالح الورع الذي يحمل الأمانة. إنه خليل مطران المؤمن الأبيّ الحر، شاعراً جنحت شاعريته عن المألوف.
الكلمة الثالثة كانت للدكتورة وفاء الأيوبي حول التمرد والثورة في شعر خليل مطران،فقالت: هو شاعر عصره بلا منازع، اللبناني ولادة، والمصري إقامة ووفاة. هنا عاش طفولته في ربوع بعلبك، حيث تفتّحت أريحته مع الجمال الطبيعي لهذه المدينة العريقة، تغنّى كثيراً بوطنيته، وكان الحد الفاصل بين العهد القديم والعهد الجديد. وقد نقل الخيال الشعري المجنح، المجدد الباعث في نثره دماً جديداً. كان أبيّ النفس، حرّ الطباع، ما جامل حاكماً، ولا صافح ظالماً، وكان مدافعاً عن حقوق المرأة، وعن حقوق الناس. قصص مطران الشعرية تستأهل دراسة مستفيضة، فقد كانت ترجمة للتعبير عن شاعريته، فجاءت القصيدة وحدة متكاملة، لا تقبل التفكك.
الكلمة الرابعة كانت للدكتور لؤي زيتوني حول إرهاصات التجديد في شعر خليل مطران. وجاء في كلمته: أتكلم عن البيئة التي عاش فيها الشاعر خليل مطران في عصر النهضة،وهي لحظة تاريخية مؤهلة للخروج على الموروث والمسلّمات من العصر العثماني، ومن الموروث الديني والفكري، وإن لم يقع جلّ شعره في مجال التجديد، لكن أهم شعره وقع في هذا المجال.
المناحي الذي اختص بها هذا التجديد:
1ـ لقد تأثر خليل مطران بالشاعر الفرنسي المعروف “ألفان دوسي” وأدخل الرومانسية إلى شعره، مثالا على ذلك قصيدة “المساء”.
2 ـ وضع مطران بعض البذور الدرامية، والتي شكّلت بذورا أصيلة، مثلاً فتاة الجبل الأسود تنكّرت بزيها لتدافع عن بلدها بوجه العثماني.
هذا في الأسلوب، وعلى المستوى الفكري هناك مثلاً قصيدة مقتل بزرجمهروالتي تحدث ثورة ضد الظلم.
وبعد استراحة قصيرة، كانت الجلسة الثانية التي كانت مساحة شعرية حول بعلبك، ألقى خلالها الشاعر عمر شبلي قصيدة جاء فيها:
يا بعلبك وهذا الشرق ما برحت فيه النبوة من يوضاس تعتذر
خمر المسيح ب”قانا” كيف نشربها مع الألى منجنى أعمارنا سكروا
عرفت كيف يعالي الطود منحدر وكيف تقنع بالمستنقع الحفر
…..
ثم كانت الجلسة الثالثة والأخيرة.
الكلمة الأولى كانت للدكتور حسن نصرالله حول تاريخ بعلبك. وجاء في كلمته: بعلبك تزهو فناً، وتراثها ينبت شعراً، وأرضها تفيض رجالاً. وكان الدكتور حسن نصرالله قد ألف كتاباً من عدة أجزاء حول تاريخ بعلبك، وهو يحكي تاريخها من العهد الأسطوري وحتى عام 2005 . وهوكتاب يحمل كل تراثها وهذا ما يميزه عن غيره من الكتب، حتى أن الذي يقرأه يقول: “الآن صرت أعرفك يا بعلبك”. وتحدث الدكتور نصر الله عن تاريخ بناء مدينة بعلبك، فهي بنيت من عهد النبي سليمان، وعن اختيار المكان لمثل هذا البناء الأسطوري.
كثيرون حاولوا أن يعتدوا على تاريخ بعلبك إلا أن الدلائل والوثائق من مخطوطات، ومسكوكات ونقوش حجرية وغيرها تحفظ لهذه المدينة تاريخها وعراقتها وأصالتها. الكلمة الثانية كانت للدكتور حسن عاصي حول قسطا بن لوقا عالماً وحكيماً.
وهو بعلبكي، لهمؤلفات لا تقل قيمة عن ترجماته، منخلاله نتعرف على بعلبك مدينة الشمس. قسط ابن لوقا البعلبكي (القرن الثالث الهجري) هو فيلسوف رياضي نصراني، برع في الفلسفة والأدب، رومي الأصل. ترجم كثيرا من الكتب اليونانية، وله تصانيف كثيرة.
ولد في مدينة بعلبك فنسب إليها، ترجم الكثير من الكتب من اليونانية إلى العربية، بلغة فصيحة، كانت بغداد عاصمته، لكنه عاش في أرمينيا التي انتقل إليها لأن الفساد كان مستشرياً في البلاد العربية، فنأى بنفسه عن ذلك الفساد، خاصة وأنه قد استقبل بحفاوة بالغة في أرمينيا.
أجمع المؤرخون على طول باعه في الترجمةبسبب لغته المتمكنة، وقدرته على التعبير بشكل جيد وفصيح. أرسل كتبه إلى بعلبك وقال: “إلى أهل المدينة الجميلة”.
الكلمة الثالثة كانت للدكتور حسن زريق حول الكتابات الحجرية في القرون الوسطى. فقال: بعلبك ترحب بزوارها، والبحر يمطره السحاب، فما له فضل عليه لأنه من مائه.
الكتابات الحجرية في بعلبك: لم تتوقف يوماً بحركة التاريخ، ففي كل زاوية نجد معلماً، فتفاعلت بداخلها حركة وعمراناً.الكتابات الحجرية تحدد لنا طرق العيش في القرون الوسطى، وكان من المألوف نقش المراسيم الملكية على الجدران لإخبار الناس بها،وذلك في بداية القرن التاسع الهجري. وقد وجد الكثير منها في جامع رأس العين.درس العلماء هذه النقوش وحللوها، وجاءت بعثات أجنبية لدراستها، لكنها وقعت بأخطاء كثيرة بسبب عدم إلمام أعضائها باللغة العربية. فترة هذه المراسيم كانت بين 779 إلى 930 هجري، وهي تبيّن العديد من الأمور:
ـ أن بعلبك هي أرض زراعية خصبة، قد اشتهرت ببساتين الفاكهة الشهيّة، خاصة التفاح والمشمش، وأشجار الكرمة وقد تغنى بها الكثيرون. وكانت هذه المراسيم تشيرإلى تعديات الشرطة على البساتين والكروم.
ـ الترميم بالرمل أثّر على النقوش الحجرية فتضرّرت بعض الشيء.
ـ كشفت هذه المراسيم أيضاً عن سمسرة القطن، وقد كان يؤتى به من حمص، إلا أن بعلبك قد اشتهرت بصناعة الثوب القطني الذي كان من أفخر المصنوعات القطنية في ذلك الوقت.
الكلمة الرابعة والأخيرة التي اختتم بها المهرجان كانت للدكتورة ليلى الكيال حول بعلبك في كتب الرحالة والمؤرخين، فقالت:موقع بعلبك يجعلها صلة وصل بين دجلة والفرات والنيل، وبذلك تحولت إلى ممر للتجار والرحالة، لذا قدمتها كتبهم في مرتبة تضاهي بلاد الشام. امتازت مدينة بعلبك بعدة أمور فهي:
ـ مدينة زراعية: ولذا ذكرها الرحالة لأنها متميزة بثمارها.
ـ مدينة صناعية: كثرة الزراعة جعلت منها مدينة صناعية.
ـ مدينة تجارية: بسبب موقعها فهي تقع على طريق القوافل والتجار، فاحتلت مركزا تجارياً مرموقاً. وقد قوي مركزها التجاري في العهد الإسلامي، واشتهرت بصناعة القماش والثوب البعلبكي الذي كان يصدّر إلى أنحاء العالم.
ـ مدينة قديمة: فهي موجودة منذ عهد النبي سليمان، وبعده كان عهد الرومان.
ـ مدينة سياحية: لتميّزها بآثارها، وفاكهتها، وطعامها…
وختمت الدكتورة ليلى كلمتها بأن بعلبك اليوم لم تعد كما الأمس، فهي لم تعد صناعية ولا زراعية، وتحتاج لأن تستعيد نشاطها كي تسترجع أمجاد الماضي.
في الختام، كانت دعوة باسم بلدية بعلبك لجميع الحاضرين لتناول الغداء في فندق كنعان الكائن في منطقة رأس العين.
لقد كان مؤتمر “خليل مطران شاعر القطرين: تاريخاً وكتاباً وإنساناً” فرصة مميزة للتعرف على الشاعر وعلى الأرض التي أنجبته، وأرضاً لالتقاء أشخاص يحملون همّ تاريخ الأدب وتاريخ المدينة التي حملت بكل جدارة لقب: “مدينة الشمس”.
المصدر: ماجدة ريا_ خاص موقع المنار