عرفت زينب الطحان الكتابة المنفتحة بكل اشكالياتها، انخراطها في مجال الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، أتاح لها حرية التعبير والحركة ، والحضور والاحتكاك بالمشاهد الإبداعية المفعمة بالعطاء. شكّل بروز الصحوة الاسلامية داخلها تحولا نوعيا في مسار وعيّها، ومع تراكم مخزونها الثقافي ،تبلورت قواعد فكرها السياسي من مجموعة اعتقادات مركزية فكونت بذلك عالما مرجعيا لأعمالها، رسمت بها هويتها اللبنانية والعربية.اهتمت بالقضايا السياسية المعاصرة : أزمة الحرية في وطننا العربي ، المقاومة، الاستعمار القديم والجديد ، والقضية الفلسطينية، والحرب الناعمة
*د. راغدة المصري
عرفت دراستها النقدية للرواية التاريخية العربية، تطورا كميا ونوعيا في كتاباتها، آخذة بعين الاعتبار المؤاخاة بين التاريخي العلمي والأدبي الفني، لتلاقي بين الحقيقة التي انتجتها ثقافتها المقاومة، والفنية التي يتطلبها عملها الأدبي،بغية ابراز دور الرواية التاريخية وانعكاستها للتعبير، لتشكل ثقافة حديثة ، ترنو الى مستقبل عربي أفضل.
كتاب” الهجرة وازمة الهوية اللبنانية في رواية “بدايات لامين معلوف ، الصادر عن دار الفارابي، وإن كان يقدم قراءة نقدية ادبية لمسار الهجرة اللبنانية التي ترويها رواية بدايات للروائي اللبناني الفرنسي أمين معلوف، و التي بدأت من سفوح جبل لبنان في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما رافقها من محطات ثقافية تغييرية كبرى في مفهوم الهوية والانتماء ،أكدّ الصلة الوثيقة بين الأدب والتاريخ من خلال إبراز الأدب والرواية التاريخية ، كأداة من أدوات التغيير السياسي والاجتماعي.
حرصت المؤلفة على المزج بين النقد الأدبي والسياسي ،و تناول الاعمال الادبية من الداخل والخارج ، من الشكل والمضمون ، لأنه لا يمكن فهم الأدب بدون فهم ظروف ابداعه السياسية والاجتماعية .
زينب الطحان أديبة أم مؤرخة؟.
بداية للاجابة على هذا السؤال نستشهد بقول الناقد الادبي الاستاذ الدكتور علي زيتون:” كتابة التاريخ والرواية التاريخية مادتهما واحدة اذا استثنينا تلك الروايات الخيالية، فالعالم المرجعي واحد وما يجري ، في الواقع، من احداث، وإذا كان التاريخ يصف ما يجري على سطح الواقع ، فإن الرواية تتخطى السطح إلى ما يقبع تحتها، رؤية المؤرخ إلى السطح قوانين علمية ،ورؤية الروائي إلى ما تحت السطح مستندة إلى ثقافة واهتمامات: مادة المؤرخ من العالم المرجعي والأساسي ومادة الروائي التفاصيل الدقيقة منه .
استعرضت الطحان مراحل تاريخ الأدب اللبناني باللغة الفرنسية، من نشأة تطور المصطلح الفرنكوفوني ، إلى آداب ما بعد الكولونيالية من خلال عدد من المراحل التي يمكن اعتبارها مماثلة لمراحل الوعي القومي أو الوطني أو الإقليمي.
تشكلت أولى مظاهر السياسات والأدوات الثقافية للادب للأدب اللبناني باللغة الفرنسية في لبنان بين عام 1820 – 1918 في القرن الأخير من الحكم العثماني استوحت مبادئها من الثورة الفرنسية، قادها مثقفون أطلقوا شعارات التغيير أسهمت نتائجها تموضع السلطة الإقطاعية والسياسية، الثقافية والاجتماعية، وظهور “تنافس المرسلون الأجانب والكنائس المحلية والسلطات الحكومية المركزية (العثمانية) والمحلية على تزويد بيروت – والجبل – ببنية تحتية تعليمية وثقافية واسعة “.
وأول من دأب على الكتابة والتعبير باللغة الفرنسية، كانت النخبة المثقفة من المسيحيين تحديدا حيث حلّت الإرساليات التبشيرية الفرنسية في العديد من أقطار جبل لبنان. وازدادت أزمة الانتماء والهوية مع ما صقّلته الارساليات التبشيرية الغربية في سورية الكبرى وخصوصا في جبل لبنان قبل ان يصبح لبنان الكبير.
ساعدت الاوضاع السياسية الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت على تشكيل ثقافة ازدواجية في تكوين الهوية والانتماءخاصة مع الهجرة و استقرار نخبة من المثقفين اللبنانيين في فرنسا هربا من الحكم العثماني نادوا بالاستقلال وطلبوا الدعم من فرنسا “حامية الحريات”. منهم ادباء وشعراء كانوا من طلائع الأدب اللبناني المكتوب بالفرنسية.
المرحلة الثانية في عصر الانتداب: 1918 – 1943 حيث طرأ تحول جذري على هذا الواقع تحت تأثير الظروف السياسية. فقد كان للثورة العربية الكبرى أثرها السلبي في نفوس بعض اللبنانيين الذين خافوا هيمنة عروبية حمل لواءها جيش الشريف حسين القادم ،فانحازوا إلى فرنسا وانكفأوا على خصوصيتهم مؤكدين على تمايز لبنان واختلافه عن محيطه العربي. وعندما أعلنت دولة لبنان الكبير سنة 1920 تبلورت هذه النزعة وعبرت عن نفسها في “المجلة الفينيقية”، التي كان يصدرها بالفرنسية الشاعر “شارل قرم” أحد منظري القومية الفينيقية .
فجاءت النظرة الروائية الفرنكوفونية لمفهوم الهوية والانتماء مرتبطة بهذا الصراع الذي طغت فيه الإيديولوجيا الطائفية في الساحة الثقافية بصفتها المحرّك البارز للمجابهات الاجتماعية الفئوية ولأشكال متدنية من الوعي.
تمتاز هذه الدراسة بامور تجعل منها قراءة تاريخية .
- الامر الاول:الجدّية وهي تغوص عميقاً في ثنايا الأدب الفرنكوفوني تتوسل الكشف عن عدد من الإشكاليات التي ترتبط به، وبخاصة إشكالية الهوية وما تتضمن من قضايا نظرية وايديولوجية على غير صعيد، ومن مواقف وممارسات شتى. فالإشكالية، التي طرحتها محورها ” مادام حياة معظم الشعوب تشكلت من خلال الخبرة الكولونيالية، فمن اليسير إدراك أهمية هذه المسألة في المجالات السياسية والاقتصادية”
- فإذا كانت وسيلة هذا الأدب في التعبير هي اللغة الفرنسية، وسياقه المضموني يتسم بالبعد الثقافي الأوروبي، فهل يمكن اعتباره أدبا أوروبيا فرنسياً؟
- وإذا كانت موضوعاته تتمحور حول قضايا عربية – لبنانية فهل يمكن أن نعده أدباً عربيا لبنانيا؟
الامر الثاني الشمولية والعمق كمؤرخة للأدب اللبناني الناطق بالفرنسي ومراحله التاريخية، فهي لا تكتفي بالنقد الادبي الوقائع من خلال رواية بدايات، بل تبحث جذور ازمة الهوية والانتماء العربي وبالأخص لدي اللبنانيين والكشف عن الاسباب البعيدة الكامنة وراء بروز اشكالية الهوية، المزمنة في قلب الصراع بين الشرق والغرب منذ الحروب الصليبية وما صقّلته الارساليات التبشيرية الغربية في سورية الكبرى، وخصوصا في جبل لبنان.
الأمر الثالث:جاءت كتابتها مطابقة لوظائف التاريخ باعتبارها ، باحثة رصدت وحللت المسارات التاريخية، من زاوية البحث العلمي المنطلق من مسلمات وفرضيات وعوامل مادية. كما شكلت الوقائع التاريخية لديها مادة استبصار واستنطاق وتكوين معرفي حددت به المسار العام لفهم التاريخ السياسي والاجتماعي لتلك الفترة.
الامر الرابع :اعتمدت منهجا خاصا بها في مقاربة الحدث وسرده وتحليله، وضبط مسبباته وتوقع تداعياته، وربطه بما يتجاوز لحظة وقوعه فتبدو معها كتابة التاريخ بمعنى الزمن الماضي كتابة للراهن والاتي، معتمدة العديد من المصادروالمراجع والمقالات .
الامر الخامس : عرضت بموضوعية مسألة أزمة الهوية الوطنية للأدب اللبناني باللغة الفرنسية لمختلف النظريات التي قدمها الادباء الذين اختاروا الفرنسية لغة لكتابتهم، وبيّنت وجهة نظرها في هذا الادب وارتباطه بمرحلة ما بعد الكولونيالية. وبالرغم من ايمانها بقضيتها الا أن دراستها لم تطلق الأحكام النهائية في بحثها العلمي بل ابقته مفتوحاً على الحوار الثقافي فقد ذكرت في خاتمة الكتاب: “إننا بكل بساطة وبالكثير من التعقيد معاً لا يمكن أن نؤدي وظيفتنا النقدية بقول نهائي وحاسم، لمعنى هذه النصوص الأدبية اللبنانية المكتوبة بالفرنسية وهويتها.”
الامر السادس: إنعاش الذاكرة، في وقت تشهد الساحة انحدارا وتراجعا، وقد أهلّتها رؤيتها للعالم المبنية على ثقافة العصر لكي تنتج ادبا رائعا، تجاوزت به فرديتها لتعبّر وتؤرخ عن همّ جمعي من هموم الأمة.
قدمت الدراسة منظورا مختلفا للتاريخ لتدخل منطقة شبه محظورة تقدم من خلالها تاريخا جديدا. بينّت الطحان تأثير الإرساليات الأجنبية والاستعمار في نشر اللغة الفرنسية، وفي تنمية ثقافة مرتبطة برؤيتها الدينية، وبخطط تخدم مصالح سياسية للدول الاستعمارية ، وهي في العمق اقتصادية بحتة.
وخلُصت إلى أمرين بارزين:
الاول: مأساتنا الماضية شبيهة بحاضرنا، وقد يشكل عنواناً لمستقبلنا إذا ما عجزنا عن تلافي مسبباته وهو: “الفتنة الطائفية بين الوجود الفرنسي والتفكك العثماني”
الثاني:” إن الفرنكوفونية لم تكن إلا سلاحاً لاحتواء المستعمرات الفرنسية السابقة ثقافياً تمهيداً لاحتواء سياسي واقتصادي”
توخت زينب طحان أن تكون دراستها الباب الذي يفتح النقاش النقدي الجدي نحو رؤية أكثر وضوحاً نظراً لخطورة الدور الذي تمارسه الرواية في استنهاض وعي الشعوب، والنهج المقاوم الثقافي الذي بدأت تباشيره مع المقاومة الفلسطينية ومن ثمّ اللبنانية وما حققتاه اليوم من انجازات يعتدّ بها للتأسيس نحو صنع مستقبل تتغير فيه كل المعايير.
وفي الختام هذا الكتاب يظهر لنا قدرات زينب طحان الابداعية لتدخلها عالم التاريخ وننتظر منها المزيد المزيد. فلك منا كل التقدير والاحترام ايتها الاديبة المؤرخة.
* قراءة نقدية تقدمت بها الدكتورة راغدة المصري في حفل مناقشة كتاب الدكتورة زينب الطحان “الهجرة وأزمة الهوية اللبنانية في رواية بدايات لأمين معلوف”.