“سياسة البطة العرجاء” في الولايات المتحدة، ليست فقط خلال الفترة الممتدة ما بين نوفمبر/ تشرين الثاني موعد انتخاب أي رئيس أميركي جديد، ويناير/ كانون الثاني من العام التالي موعد دخوله الى البيت الأبيض واستلام مهامه، خاصة عندما يُنتخَب رئيس من حزبٍ مُغاير ويحمل برامج كيدية مُخالِفَة لسياسات خصمه الراحل، فكيف بالحري إذا كان دونالد ترامب “البراغماتي غير المُلتزِم ورجل الأعمال المتفوِّق” قادمٌ لتقويض الإيديولوجية الحزبية للديموقراطي باراك أوباما وسياساته على المستويين الداخلي والخارجي، مما يستوجب انقلاباً في البيت الأبيض ليس فقط بفريق العمل، بل بسياسات جديدة تستغرق وقتاً وتُبقي أميركا على المستوى الخارجي في وضع “البطَّة العرجاء” بانتظار ترتيب “البيت الأبيض الداخلي”.
في هذه الأجواء، جاء تحديد العاصمة الكازاخستانية “أستانا” القريبة جغرافياً وتاريخياً وسياسياً من روسيا، مقراً لمفاوضات أطراف الأزمة السورية، برعاية روسية إيرانية التحق بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مُرغماً مستسلماً، لأسبابٍ داخلية ترتبط بالوضع الداخلي التركي الذي يقرع الإرهاب أبوابه من الجنوب، وبغياب فاعلية التحالف الدولي بقيادة أميركا في المُحاربة المُصطنعة لمحاربة هذا الإرهاب، وعدم جدوى حلف الناتو كذراع عسكرية دولية لأردوغان، والذي فكَّك بطاريات صواريخه على الحدود التركية السورية وارتحل عام 2015، إضافة الى رسائل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى أردوغان خلال الحملة الإنتخابية الأميركية، والتي لا تبشِّر بإمكانية وجود كيمياء تقارُب بين الرجلين، مما دفع بالرئيس التركي الى الإرتماء بأحضان القيصر الروسي فلاديمير بوتين، لأن تركيا باتت تواجه خطراً وجودياً مزدوجاً من إرهابيي داعش الذين وجَّههم قائدهم البغدادي بوجوب القضاء على ما اعتبره النظام الكافر في تركيا، أو من الأكراد وعداوتهم التاريخية مع الكيان التركي الرافض لقيام كيانهم المستقلّ.
والسياسة العرجاء المُتردِّدة لأردوغان، تتناغم ووضع “البطَّة الأميركية”، بحيث أن نائب رئيس الوزراء التركي أعلن أن الوقت الراهن لا يسمح بالبحث في الشأن السوري بمعزلٍ عن وجود الرئيس الأسد على رأس الحكم، فيما أعلن مصدر في الخارجية التركية أنه لا يرى مستقبلاً للأسد في التسوية، فجاء القرار الروسي الحازم بطرح دستورٍ جديد لسوريا على طاولة مفاوضات أستانا وبالتفاهم مع القيادة السورية، لينزِل كما الصاعقة بوجه خصوم سوريا، وهذا الدستور أخذ بعين الاعتبار، ما طُرِح طوال السنوات الماضية من الحكومة والمعارضة ودول المنطقة، وأعدَّته روسيا متكاملاً “بالتنسيق مع الحكومة السورية”، ليُرسِي اللامركزية في الدولة ويُراعي المتغيِّرات.
ومما عزَّز من الموقف الروسي في إدارة مفاوضات أستانا، هو التشرذم الواضح داخل ما تُسمَّى “المُعارضات السورية”، بحيث حضرت الى المفاوضات، جماعات “الجيش السوري الحر” والفصائل المنضوية تحت جناحه، و”فيلق الشام”، و”فرقة السلطان مراد”، و”الجبهة الشامية”، و”جيش العز”، و”جيش النصر”، و”الفرقة الأولى الساحلية”، و”لواء شهداء الإسلام”، و”جيش الإسلام”…، وامتعنت عن المشاركة جماعات “أحرار الشام”، و”صقور الشام”، و”فيلق الرحمن”، و”ثوار الشام”، و”جيش إدلب”، و”جيش المجاهدين”، و”حركة نور الدين الزنكي، وهذا التمزُّق داخل هذه المجموعات، يُضاف إليه وجود داعش والنُصرة / فتح الشام، والتقاتل فيما بينها وإندماج بعضها منذ يومين تحت لوء النُصرة لمحاربة الفصائل الأخرى، ما يُثبت دون أدنى شك، أن خيارات الرئيس الأسد وجيشه وحلفائه، وفي ظل دستورٍ يُنصِف الشعب السوري و”التائبين” من المجموعات الضَّالة سوف تنتصر، ليس فقط بفضل الجيش السوري وحلفائه، بل عبر الإستفادة من التفرقة التي تحكُم جماعات لا تُجِيد سوى حرب العصابات والتدمير والتكفير، ولا تحمِل أية مشاريع لبناء دولة، وهذا ما بات ثابتاً لدى كافة شرائح الشعب السوري، ولدى العرب والغرب بما فيه أميركا، أن روسيا الجادة في محاربة الإرهاب باتت ضابط ارتباط الشرق الأوسط، وأن إيران التي أثبتت الحضور القوي في أستانا هي المرجع الإقليمي الأقوى، وبات على الغرب إذا كان يخشى من ارتدادات الإرهاب أن يستلحق نفسه ويسير في ركاب التسوية الروسية / الإيرانية كما فعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ أيام.
وفي هذا السياق، سارع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الى إعطاء الضوء الأخضر لوزارة الحرب الأميركية، للمباشرة الفورية في تنسيق العمل المشترك مع القوات الجوية الروسية ضد تنظيم داعش في سوريا، في الوقت الذي كانت فيه القاذفات الاستراتيجية الروسية العابرة للأجواء الإيرانية والعراقية، تعمل في دير الزور دعماً للجيش السوري بوجه داعش، في رسالة روسية واضحة وهامَّة للمجتمعين في أستانا، تحت عنوان السعي لتثبيت وقف النار في سورية بين الجيش السوري وحلفائه من جهة، والفصائل المسلحة العاملة تحت العباءة التركية من جهة مقابلة، والتي سبق وتم إخراج مسلحيها الذين هزموا في حلب، بمسعى من رعاة مؤتمر استانة الروسي والتركي والإيراني، مما جعل أميركا ذات التمثيل الضعيف في أستانا، تلتحق بالقطار الروسي الذي لن يحِيد عن سكَّة سحق الإرهاب وتأمين حدود روسيا القريبة ومصالح الشركاء خارج الحدود.
وخلال هذا اليوم تحديداً، الموافق في 27 يناير/ كانون الثاني، يلتقي وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أطرافاً من المعارضة السورية، لإستكمال البحث في ما آلت إليه مباحثات أستانا لجهة تثبيت وقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه، فإن بعض هذه الأطراف، التي تحفَّظَت على الدور المُعطَى لإيران في مفاوضات أستانا، ستسمع باللغة الروسية وعلى لسان لافروف، أن دور إيران لا يقلّ عن دور روسيا، وإذا كان قيصر روسيا يرعى عملية إعادة بناء الدولة السورية عبر جمع الفرقاء حول دستورٍ موحَّد، فإن الدور الإيراني هو في الحفاظ على وحدة الأرض السورية، وما على الداعمين والمموِّلين والمُمَرِّرين للإرهاب، وفي طليعتهم أميركا ودول الخليج وتركيا، سوى إتقان اللغة الروسية لإستيعاب الآتي الأعظم…
المصدر: موقع المنار