دخلت سوريا ومعها منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد بلاد الشام في منعطف جديد، بعد استلام “هيئة تحرر الشام” السلطة في العاصمة السورية دمشق وعدد من المحافظات، وتحولت الهيئة من جماعة مسلحة إلى “سلطة قائمة” تدير مقدرات الشعب السوري في محافظات الجنوب ودمشق حمص والشمال السوري.
وأمام السلطة الجديدة في دمشق تحديات عدة، أبرزها الإدارة الذاتية للوحدات الكردية في الشرق السوري وفي محافظة الحسكة ومناطق شمالية أخرى، مع وجود قواعد عسكرية أمريكية يديرها (900) جندي بحسب الأرقام الرسمية. وتسيطر الوحدات الكردية على أغلب منابع النفط في الشرق السوري، بالإضافة إلى الحسكة، التي تعد السلة الغذائية السورية، نظراً لإنتاجها الزراعي، والذي يغطي أغلب المحافظات السورية.
ويبدو أن “هيئة تحرير الشام” باتت تدرك تعقيدات المشهد الديمغرافي السوري، بتنوعاته وتشعباته الطائفية والقومية، وهي التي ارسلت العديد من رسائل التطمين للمكونات السورية، بالحفاظ على ممتلكاتهم وأرواحهم، غير أنها لم تبدِ استعدادها حتى الآن لاشراكهم في الحياة السياسية في النظام الوليد، واكتفت بالدعوة عبر جناحها السياسي (إدارة الشؤون السياسية)، إلى “مصالحة مجتمعية شاملة مبنية على العدالة والمساءلة”، بهدف “تحقيق السلام الدائم وترميم النسيج الاجتماعي”.
وفي السابق طبعت التصفيات الداخلية وضد أطياف الشعب السوري سلوك “جبهة النصرة”، ما أثار خشية من استلام “هيئة تحرير الشام” السلطة في محافظات سورية عدة، ان كان على صعيد التعامل مع الاقليات الدينية أو حتى على صعيد العلاقات الفصائل المختلفة في سوريا، والتي تحمل أفكاراً أخرى متعارضة مع تلك التي تحملها “هيئة تحرير الشام”.
ومن المفيد الإشارة إلى أن “هيئة تحرير الشام” وفي سياق تحولاتها بدءاً من فك الارتباط مع تنظيم القاعدة مروراً بـ “جبهة فتح الشام” ووصولاً إلى الشكل الحالي، خاضت مواجهات عديدة مع الفصائل المختلفة في سوريا، ووجهت إليها اتهامات بالتصفية والقتل خارج نطاق القانون، من قبل الجماعات الأخرى.
وتحدثت إدارة الشؤون السياسية في بيانها الأخير عن السعي إلى قيام دولة “قانون تضمن الكرامة والعدالة ومؤسسات تعكس طموحات الشعب السوري”، من دون تحديد آليات الوصول إلى هذا الأمر.
هذا على الصعيد السياسي الداخلي، أما على المستوى الإقتصادي، فتعاني سوريا من تراجع بالنمو الاقتصادي، بسبب ظرف الحرب الماضية، والحصار الأمريكي على البلاد “قانون قيصر”، وهذا ما قد يدفع بالسلطة في دمشق إما إلى تقديم تنازلات للولايات المتحدة لرفع هذا الحصار، أو بالتأقلم معه، عبر فتح باب التجارة مع تركيا في الشمال والأردن في الجنوب وأيضاً مع العراق في الشرق، وهذا ما قد يؤسس لعلاقات جديدة مع تلك الدول، تفرضها الظروف السياسية والاقتصادية الجديدة مع دول الجوار السوري.
وعلى الصعيد الأمني، تدور مخاوف من قيام حرب أهلية في سوريا، بسبب انتشار السلاح والتعدد الفصائلي، رغم محاولات “تحرير الشام” حصر السلاح في يد السلطة القائمة، غير أن هذا الأمر دونه العديد من التحديات، نظراً لامكانية انفلات الوضع الأمني القائم في سوريا منذ سنوات، وصعوبة تأسيس نظام أمني جديد في البلاد، يضمن الاستقرار في المرحلة القادمة، وهذا الأمر مرهون بمدى وفعالية وسلوك الإدارة الجديدة للبلاد.
وعمت الفوضى مدينة دمشق بعد دخول “تحرير الشام” إليها. وفي هذا الإطار أعلن رئيس الحكومة السورية محمد غازي الجلالي، أنه اتفق مع أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” على إنهاء المظاهر المسلحة. ويستعد الجلالي إلى تسليم مقاليد السلطة في البلاد إلى ادارة العمليات العسكرية.
وكان الجلالي قد اعلن في وقت سابق من فجر اليوم، استعداده للتعاون مع أي سلطة سياسية يتفق عليها السوريون، وتقديم التسهيلات اللازمة لضمان نقل الملفات الحكومية بشكل سلس ومنهجي.
بالإضافة إلى التحديات السياسية والإقتصادية والأمنية، هناك عودة الللاجئين من دول الجوار إلى سوريا، وقضية اعادة الإعمار، وغيرها من الملفات التي يفترض للسلطة الجديدة في سوريا أن تتعامل معها وتسعى إلى ايجاد حلول مستدامة لها.
بالفيديو | وزير المالية السوري رياض عبد الرؤف يتحدث عن الوضع الراهن في البلاد والقدرة على السيطرة على تدهور سعر الصرف
السياسة الخارجية.. فلسطين والاعتراف الدولي
على صعيد العلاقات الخارجية، تتجه “هيئة تحرير الشام” بحسب المعلن من بيانات، إلى بناء علاقات سياسية استراتيجية مع دول الجوار، كما بعثت بتطمينات إلى الدول الغربية، باستعدادها لحل قضية اللاجئين، والتعاون في المجالات السياسية والإقتصادية.
أما الأبرز في هذا السياق، فهو علاقة “تحرير الشام” مع الكيان الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وهنا بيت القصيد، والمحور الأهم الذي يعطي الشرعية للسلطة الجديدة في سوريا من عدمها.
بحسب المواقف المعلنة لـ “هيئة تحرير الشام”، فقد باركت في السابق عملية “طوفان الأقصى”، وأكدت على حق الشعب الفلسطيني في قتال العدو الإسرائيلي لاستعادة أرضه والمقدسات الإسلامية في فلسطين التاريخية. غير أنه لم يصدر أي بيان جديد حول الموقف من تطورات معركة طوفان الأقصى، ومن التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية على أكثر من صعيد.
تضم دمشق مكاتب فصائل المقاومة الفلسطينية التي وفرت لها الدولة السورية مقومات الدعم والصمود بالموقف السياسي والعملي، وعملت الدولة السورية على تقديم كافة الحقوق لللاجئين الفلسطينيين في سوريا، من تسهيلات مدنية وسياسية وغيرها، هل ستستمر السلطة الجديدة في سوريا بدعمها للمقاومة الفلسطينية؟
ومن المعلوم أن الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد كانت من أشد الداعمين للمقاومة في فلسطين ولمحور المقاومة الداعم للقضية الفلسطينية والساعي إلى تحرير المسجد الأقصى بالقول والفعل، وبالتالي تدور تساؤلات كبرى حول موقف أحمد الشرع “أبو محمد الجولاني” من المعركة الجارية حالياً مع العدو الإسرائيلي.
موقف السلطة الجديدة في سوريا من فلسطين ومن محور المقاومة ومن العلاقة مع الكيان الإسرائيلي، يحدد مسارها ومستقبلها، في ظل ما تعيشه المنطقة من تحولات كبرى، وفي ظل سعي اسرائيلي إلى تحقيق مكاسب أمنية في سوريا، في هذه المرحلة.
وفي اليوم الأول من دخول المعارضة المسلحة إلى دمشق، نفذت قوات الاحتلال الإسرائيلي غارات استهدفت أكثر من محافظة سورية، أبرزها في المزة، حيث لم يصدر أي موقف من السلطة الحالية في دمشق، كما لم يصدر منها أي بيان بما خص احتلال القوات الاسرائيلية المنطقة العازلة في الجولان السوري.
وفي أول تطور ميداني بعد دخول “تحرير الشام” إلى دمشق، نشرت قوات الاحتلال الإسرائيلي جنوداً في المنطقة الفاصلة العازلة في الجولان المحتل، وأعلنت كافة الأراضي الزراعية المحاذية للحدود مع سورية منطقة عسكرية مغلقة. وأشارت وسائل اعلام اسرائيلية إلى دخول قوات إسرائيلية إلى “خان أرنبة” في الجولان المحرر.
وفي تطور لافت، زار رئيس حكومة بنيامين نتنياهو مواقع قريبة من الحدود السورية، مشيراً إلى أن ما حصل في سوريا يخلق فرصا جديدة ومهمة جداً لكيانه، لكن الأمر ليس خاليا من المخاطر بحسب تعبيره.
لكن الأبرز في تصريحات نتنياهو، هو اعلانه أن اتفاق “فصل القوات” المبرم عام (1974) قد انهار، والتي نصت في احد بنودها على وجود منطقة عازلة بين سوريا والجولان المحتل، تتم مراقبتها من قبل الأمم المتحدة (اندوف”. وبالتزامن قالت وسائل اعلام اسرائيلية إن جيش الاحتلال سيطرة على قمة جبل الشيخ في الأراضي السورية.
وبالتزامن مع هذا التطور الميداني، اعتبر الوزير في حكومة الاحتلال وعضو حزب الليكود “عَميحاي شيكلي”، أن اتساع سيطرة الوحدات الكردية في شمال شرق سوريا، هو خبر سار للكيان، في حين دعا رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد إلى تحقيق حل سياسي يضمن السيطرة الصهيونية على الضفة الغربية المحتلة.
تشكل فلسطين والمسجد الأقصى المبارك محور ومحدد السياسات الشرق أوسطية والغربية أيضاً، وبالتالي فإن موقف القوى السياسية السورية الجديدة منها، يحدد مسار وتطور الأوضاع في البلاد.
وبالنسبة إلى الاعتراف الدولي، ليس من الواضح حالياً طريقة تعامل الدول الغربية ومن ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية مع السلطة الجديدة في سوريا، خصوصاً وأن “هيئة تحرير الشام” وقائدها العام “أبو محمد الجولاني” مصنف على اللوائح الإرهابية لواشنطن. ويحدد الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة المستقبلية في سوريا، آفاق المستقبل السياسي لها، على صعيد العلاقات الدولية مع باقي دول العالم.
المصدر: موقع المنار