إعداد: أحمد حاج علي*
منذ تعثر الموجة الأولى للهجوم الأوكراني المضاد، الذي يؤرّخ له في الثامن من حزيران/يونيو الماضي، والحديث يدور عن استحقاق يوم “D” اليوم الموعود لعبور القوات الأوكرانية نهر دنيبر. ولم يتوقف التهديد والوعيد الأوكراني حتى بعد فشل موجتي الهجوم الثانية والثالثة. غير أن عبور دنيبر يعد، من وجهة نظر عسكرية، مغامرة غير مبررة ومحاولة انتحار أخذًا في الاعتبار التفوق الجوي الروسي، ولا سيما أن القوات الجو-فضائية الروسية قد عثرت على حلول لدرء خطر المسيرات الأوكرانية المتعددة الطُرز والأنواع والمهمات.
وقد يكون هذا الحديث نوعًا من محاولة التضليل. وخاصة أن التكتم على المخطط لضمان تنفيذ المهمة هو من بديهيات العلوم العسكرية.
ووفقا لمراقبين فان تسريبات معطيات الاستخبارات العسكرية تفيد بنقل احتياطيات القوات المسلحة الأوكرانية باتجاه جبهة زابوروجيا. حيث تؤشر كميات المعدات والآليات العسكرية المنقولة خلال الأيام القليلة الماضية إلى فشل موجة أخرى من الهجمات المضادة، إذا استثنينا النجاح التكتيكي المؤقت المتمثل في السيطرة على ستارومايورسكوي، وتمكُّن القوات الأوكرانية من إخراج بعض الجنود الروس من مواقعهم في رابوتينو. بيد أن القوات الأوكرانية سرعان ما تخلت عن تلك المواقع، التي لا قيمة عملياتية له إن لم يكن الامساك بها مترافقاً مع نوايا مؤكدة مقترنة بإمكانات كافية لاستئناف الهجوم المضاد، ولأن الاحتفاظ بها يقود إلى كلفة غير مبررة. فهل من المتوقع ان تعترف كييف بفشل مخططاتها لتنفيذ هجومها المضاد؟
لا يبدو ان الرئيس الأوكراني وهيئة أركانه العامة يمتلكان الجرأة لتقدير الموقف الميداني بشكل موضوعي. فالقوات الأوكرانية تُستنفد، وبدلاً من ان يحقق الهجوم الأوكراني المضاد تقدمًا جغرافيًا، يلاحظ تقدمٌ عملي للقوات الروسية على أكثر من محور واتجاه. فمن الذي يهاجم؟ ومن الذي يتخذ أوضاعا دفاعية؟ القوات الأوكرانية أطلقت عنوان الهجوم المضاد، وهي تفتقر حالياً إلى الموارد وإلى مزيد من قوات الاحتياط التي يمكن الزج بها في أتون المعركة، في حين تظهر القوات الروسية صمودا، وهي تحقق اليوم تقدماً عملياً. وهي خلافًا للأوكرانية، لا تشكو من نقص في عديد وعتاد قوات الاحتياط، التي يمكن استخدامها في هجوم مضاد روسي أوسع لم يُتخذ قرار البدء به بعد.
على سبيل المثال، نرى أن القوات الأوكرانية تعاني من إشكالية حقيقية على محور سفاتوفو. فالقوات الروسية حققت تقدماً على محور إضافي من الجبهة، وشكلت تهديداً لمحاورها الأخرى. اما الدفاعات الأوكرانية فإن لم تنهرْ، فهي تصدعت من دون ظهور أي مؤشر على نفاد احتياطيات الدعم الروسية.
القوات الأوكرانية تعاني أيضا من خلل عملياتي في محيط محاور أرتيوموفسك، فهي لم تتوقف عن شن هجماتها المضادة منذ ثلاثة أشهر، رغم تحقيقها بعض التقدم شمال وجنوب أرتيوموفسك، لكنها لم تحسم الأهداف الرئيسة لمصلحتها، ولا مصير استعادة السيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية.
خبراء استراتيجيون يرون أن الغرب الجماعي يطالب بتحقيق بعض النتائج التي تخوله دخول مفاوضات محتملة من موقع متقدم بشكل أفضل، عن طريق التمسك بمساحة جغرافية يمكنه ضمها بشكل أو بآخر إلى حضن الناتو، فالغرب لا يثق بتحقيق القوات الأوكرانية نصراً حاسماً في مسار المواجهة، ولذا يريد تحسين موقفها وموقفه التفاوضي على تقاسم النفوذ في أوكرانيا في إطار استحقاق مقبل. في المناسبة، بدأت بعض الأصوات الغربية تتحدث عن حتمية العملية التفاوضية.
في هذا السياق، من المعلوم أن روسيا خاضت المواجهة المفروضة رفضاً لضم أوكرانيا لحلف الناتو ولا فرق بين ضم جزء منها كبر أو صغر أو ضمها بأكملها، من حيث التهديد الوجودي الذي يشكله هذا الضم عليها.
ومن ناحية ثانية، وعلى الرغم من التقدم الروسي على محاور اتجاهات سفاتوفو، كريمينايا وكوبيانسك، فإن الهجوم الروسي الأساس لم يبدأ بعد.
نظرة للوضعية القتالية
اتجاه الشمال، إن زمام المبادرة القتالية في اتجاه كوبيانسك، سفاتوفو، كريمينايا أصبح في يد القوات الروسية، التي تستمر في تنفيذ عملياتها الهجومية حيث فشلت القوات الأوكرانية في تأمين استقرار الجبهة في هذا الاتجاه. التقدم الروسي في هذا الاتجاه يعني الاقتراب من تهديد مدينة خاركوف والعودة لتوفر إمكانية استعادة السيطرة على إيزيوم في مرحلة لاحقة.
وفي اتجاه أرتيوموفسك، تشهد الجبهة هدوءاً نسبياً، حيث تدرك القوات الأوكرانية قدراتها الواقعية بعد ثلاثة أشهر من محاولات التقدم المتعثرة حتى قبل فتحها مواجهة موسعة على جبهة الجنوب في زابوروجيا. فالقوات الأوكرانية لم تتمكن من زحزحة القوات الروسية من كليشييفكا، بل بدأت تخسر بعض نقاط تموضعها، ذلك لأن المبادرة عملياً بدأت أيضا تنتقل لمصلحة القوات الروسية، التي أصبح بيدها أن تقرر أولوية التقدم على أي اتجاه، بينما بدأت القوات الأوكرانية في اتخاذ وضعيات قتالية دفاعية، كما توقعنا في تقارير سابقة.
وبالانتقال الى الجنوب، إلى أفدييفكا، يبدو الوضع شبيهًا بالهدوء الذي يسبق العاصفة، والمواجهات بدأت بشكل متدرج تندلع في اتجاه ماريينكا، حيث تحاول القوات الروسية دفع الخصم الأوكراني من شمال وجنوب ماريينكا. لم ترصد نجاحات روسية مؤثرة حتى الآن، غير أن الواقع يؤكد عودة تسخين هذه الجبهة.
أما محاور اتجاه زابوروجيا فشهدت عدة هجمات صغيرة بعد الهجوم الموسع الذي نفذته القوات الأوكرانية خلال الأيام الماضية، وسيطرت فيه على بعض نقاط التموضع، وحاولت خرق خط الدفاع الروسي، لكن هذا الهجوم مني بالفشل. وأمس، اضطرت القوات الأوكرانية إلى التراجع من ستارومايورسكوي، ووردت معلومات تفيد بأن القوات المهاجمة تقهقرت من راباتينوفا. التمسك بهذه المواقع مكلف عسكرياً للغاية ولا فائدة أو مبرر له إن لم تتوفر النية والقدرة الواضحة على استئناف الهجوم، لا، بل من الممكن أن تتحول تلك البقعة إلى مفرمة جديدة للمعدات والقوات والتشكيلات الأوكرانية.
حدة المواجهة وكميات وأعداد القوات الأوكرانية وآلياتها تؤكد طبيعة بدئها هجومًا مضادًا جديدًا، لكنه كسابقاته يستبعد ان يحقق أي إنجاز ميداني أو تقدم جغرافي مؤثر في مسار المعركة. أما القوات الروسية فهي تستعد مجدداً لصد الضربة القادمة المتوقعة في هذا الاتجاه.
وفي اتجاه خيرسون، لوحظ نقل أعداد كبيرة من المعدات والآليات والعديد إلى الشمال، ما يشير إلى تراجع القوات الأوكرانية عن فكرة عبور نهر دنيبر، عند المنطقة التي انحسرت عنها مياه سد كاخوفكا المنهار.
في المحصلة، مع تعثر موجات هجماتها المضادة ستكون القوات المسلحة الأوكرانية مرغمة على التحول للتكتيك الدفاعي، ومع بوادر تفكك هيكلية الجيش الأوكراني ينتقل زمام المبادرة على الجبهتين الشرقية والجنوبية الى الجانب الروسي، مع امكانية تفاقم التوتر على الحدود المشتركة البولندية البيلاروسية الأوكرانية بشكل مفتوح على اكثر من إحتمال.
مركز إتجاهات: دراسات و تنبؤات وإستشراف المستقبل
المصدر: موقع المنار