ستوكتون راش، بول هنري، شهزادا داود ونجله سليمان داود، هاميش هاردينغ، من هم هؤلاء؟
منذ أيام بات هذا السؤال أو بالأحرى الإجابة عليه أمراً مألوفاً للملايين حول العالم. لماذا؟ هل لمأساوية قصتهم، إذ إنهم ماتوا غرقاً في “مغامرة بحرية” دفعوا ثمنها حوالي 250 ألف دولار (البعض يقول إن المبلغ أكبر)؟ ربما. أم لأن تفاصيل قصتهم مرتبطة بسفينة التيتانيك الشهيرة التي غرقت عام 1912 متسببة بوفاة أكثر من 1500 شخص، وفي هذا نوع من التشويق والغرابة، إذا صح التعبير؟ ربما ايضاً.
في المقلب الآخر، فقد سبقت قصة هؤلاء الخمسة (قبلها بأسابيع)، قصة أخرى، أبطالها سبعمئة وخمسون شخصاً تقريباً، من هم هؤلاء؟ أسماؤهم مجهولة بمعظمها، وقصتهم ايضاً اقتصر سرد تفاصيلها على بعض وسائل الاعلام. لماذا؟ يبدو أن عناصرها افتقدت للتشويق والجذب والغرابة؟ لأنهم كثر؟ لأن قصتهم مكررة؟ على الأرجح، فبحسب منظمة “أطباء بلا حدود”، فقط في عام 2022 مات 2367 شخصاً خلال محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط هرباً من الحروب والفقر، وهذا فعلياً وباختصار ما حدث للسبعمئة وخمسين شخصاً أعلاه، بغض النظر عن تفاصيل أخرى، عكس عدم التدقيق بها أو الاهتمام بها أو المحاسبة عليها لامبالاة الدول تجاهها. هذه التفاصيل تقتصر على أنه، بحسب إفادات الناجين والكثير من المنظمات الحقوقية وحتى بعض وسائل الاعلام الأجنبية، فإن موتهم كان نتيجة إهمال خفر السواحل اليونانية، وأن هؤلاء فروا رغم عشرات الأصوات التي صرخت مستنجدة طلباً للحياة.
لنعد إلى الأثرياء الخمسة. تقول القصة إنهم “أرادوا القيام بأمر خارج عن المألوف”، حسبما أعلن أحدهم وهو هاميش هاردينغ على “انستغرام” قبل الغوص في الأطلسي، فالحياة باتت مملة للغاية. كان حطام التيتانيك، التي تمكث على عمق 3800 متراً على بعد 1450 كم شرق كيب كود، ماساتشوستس، وجهة لهم. ومن أفضل من الغواصة “تيتان” للوصول ومشاهدة الحطام؟ خصوصاً أن أحد الركاب، ستوكتون راش، هو الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة “أوشن غيت” المصنعة للغواصة.
سيطرت الحماسة وحس المغامرة على الأثرياء الخمسة حتى أنهم لم يعيروا انتباهاً لمعلومات، ظهرت إلى العلن عقب الحادثة، مفادها أن وثائق دعوى قضائية تعود لعام 2018 أفادت أن المدير السابق للعمليات البحرية في الشركة الأمريكية المالكة للغواصة المفقودة كان قد أثار مخاوف تتعلق بسلامتها قبل أن يتم طرده. وفي السياق، فقد قال المدير السابق للعمليات البحرية إن “كوة الرؤية في مقدم الغواصة صممت لتحمل الضغط على عمق 1300 متر وليس أربعة آلاف متر”.
هذه المعلومات حول “تيتان”، برزت وارتفعت احتمالات صحتها، بعد أن فقد التواصل مع الغواصة قبل مرور ساعتين على انطلاق الرحلة.
ما هو ملفت في هذه القصة أيها القراء، بعد “المغامرة المشوقة” والتيتانيك ومأساوية النهاية، إذ أعلن “خفر السواحل الأميركي” بحسب قناة “فوكس نيوز” الأمريكية، بعد أربعة أيام من البحث الشاق والمتواصل أن الغواصة “حدث بها انفجار داخلي كارثي أودى بحياة جميع الركاب”، ما هو ملفت “الاستنفار الهائل والضخم” ميدانياً واعلامياً وبشرياً وعلى مستوى دول كبرى كأميركا وفرنسا وكندا، وضعت فيه الأخيرة ما أمكن من التكنولوجيا البحرية للوصول إلى الغواصة وإنقاذ الأثرياء الخمسة أو معرفة مصيرهم. لكن للأسف، دون جدوى، لقد رحلوا. وهنا يحضر السؤال السريالي: هل شاهدوا التيتانك قبل موتهم؟ لكن لا بأس فقد رقدوا بسلام بجوارها. وهناك سؤال آخر شغل بال متابعي الحادثة الذين حولوها إلى “ترند”، ما الذي حدث معهم، فليس من الطبيعي أن تخذلهم هذه الغواصة المتطورة.
هنا طرحت سيناريوهات ثلاثة: الأول أن يكون حدث تسرب للمياه داخل الغواصة، بسبب الضغط الذي يصل إلى 370 بار، أو إذا وجد تصدع صغير. الأمر الذي يعد خطيراً لأنه يحدث زيادة في حجم النيتروجين وثاني أكسيد الكربون، وتبدأ الغواصة في الغرق. السيناريو الثاني يتمثل في حدوث تعرض لضغط كبير من الخارج، وهو الأمر الذي يؤدي مباشرة إلى كارثة سريعة لا تتحملها الغواصة. أما الثالث فيمكن أن يكون وقوع حريق ناتج عن ماس كهربائي، وهو الأكثر ترجيحاً، بحسب خبراء.
رحل راش وهنري وشهزادا داود ونجله وهاردينغ. الموت قاس حقاً. لكنه كذلك للجميع.
لسنا هنا من خلال ما ذكرناه عن مأساة “تيتان” نقلل من قسوته، لكننا نود فقط طرح اشكاليات محقة، أهمها مدى نفاق وكذب الأنظمة والديمقراطيات من واشنطن إلى باريس وغيرها وغيرها وأدواتهم من المنظمات الأممية، عند رفع شعارات “المساواة” و”حقوق الانسان” و”تمكين اللاجئين” (احتفل العالم بيومهم العالمي منذ أيام بالمناسبة)، وغيرها، فقط وفقاً لمعاييرهم ومصالحهم، التي تبدو فضفاضة على الالاف من غرقى المتوسط، فليرقدوا بسلام، أحلامهم ثقيلة ومملة، فمن المؤكد أنهم لم يفكروا برؤية هيكل التيتانك يوماً!
المصدر: موقع المنار