يقترب الكيان الصهيوني من نقطة اللاعودة جرّاء حدّة الانقسام بين شرائح مكوناته الإجتماعية. صحيح أنّ الاحتجاجات في شوارع تل أبيب والقدس وبقيّة المدن المحتلّة، تُظهر انقساماً حاداً بين اتجاهين اثنين، علماني وديني، إلا أنّ الاحتجاجات واستمرارها وتطوُّر الخطاب السلبي فيها وجرّائها، يساهم في تعزيز الانقسام الموجود وفي تعظيمه، بما يشي بالأسوأ منه.
يوجد بين المعارضين لحكومة نتنياهو، كما بين المؤيّدين، من يسعى إلى تسوية ما تتعلّق بموضوع التظاهر والاحتجاج، ومعظم هؤلاء من النخبة ممّن يرون في استمرار الاحتجاجات، إضرارا بالكيان الجامع لكلّ أطياف وشرائح “وقبائل” “إسرائيل” بانقساماتها واختلافها، إلا أنّه في المقابل، يوجد لدى الجانبين جهات معنيّة باستمرار الاحتجاج، على خلفية المعركة التي يرونها: إمّا نحن، وإمّا هم.
ينتظر نتنياهو، صاحب الكلمة الفصل في إنهاء السبب المباشر للاحتجاج وللتظاهرات في الشارع، بما يمنع عن الكيان الأسوأ، “عرضاً ما” يؤدّي إلى ما يوازي العرض الذي يتلقّاه من حلفائه في الائتلاف: إيقاف محاكمته وإسقاطها. وهو انتظار كان معقولاً ومؤمّلاً به، في الأمس القريب، إذ كان يأمل نتنياهو أن “يركض” المعارضون إليه، لإعطائه ما يريد مقابل وقف تسليط المتديّنيين على العلمانيّين، لكنّه الآن بات صعباً إن لم ينتف، إذ إنّ قادة المعارضين يتلمّسون بعد أسابيع من الاحتجاجات، أنّ بإمكانهم الاستمرار بها وتعظيمها، بما يؤدّي إلى إسقاط المبادرة في التعديل القضائي وغيره من التعديلات المراد إقرارها من الائتلاف، بل وأيضاً إسقاط الحكومة، دون تنازل أمام مصلحة نتنياهو الشخصية.
لكن ما يُغفَل عنه، أو يراد أن يُغفَل عنه، أنّ التظاهرات والاحتاجاجات والمناخ العام الانقسامي الذي يسيطر على الصهاينة ويدفعهم إلى خطاب قاس ومتطرّف، بات يَرِد فيه حديث عن “جهة إسرائيلية معادية لجهة إسرائيلية أخرى”، وهو حديث الصهاينة أنفسهم عن بعضهم البعض.
تزيد دعوات التحريض والتأليب بين هذه الفئة الصهيونية ضد الفئة الصهيونية الأخرى. ما يعني أنّ الاحتجاجات لم تعد تعبيراً عن انقسام موجود وكان مكبوتاً أو كانت تعبيراته العملية محدودة ومقلّصة، وأنّه الآن وجد فرصة لتظهير نفسه بمناسبة الخلاف على موضوع يتعلّق بتصارع بين فئتين صهيونيتين على المنظومة القضائية وصلاحياتها، بل بات هو نفسه “منصّة قفز” لمستويات أعلى من الخلافات والانقسام، ينقل الكيان من حال إلى حال، التي من شأنها، نظرياً في هذه المرحلة على أقل تقدير، أن تعبّر عنها نفسها بتطرّف بين الصهاينة .
موضوع متصل
كيان العدو سباق بين التهدئة أو الحرب الأهلية !!
حدّة تأثير الوضع القائم في الكيان الصهيوني على نفسه، وعلى أمنه وعلى منعته ، تتأذّى يوماً بعد يوم. واقع الكيان كما هو يُضعِف ردعه في وجه أعدائه، ويُظهِره أنّه أضعف ممّا كان عليه، وأنّ قراره سيكون محدوداً ومتواضعاً في حال الإضرار به، أو رفع مستوى الردّ على اعتداءاته من دون الخشية لدى الأعداء من التبعات الواسعة.
وهذه التداعيات واتساعها وانتشارها وتأثيرها على القرارات وعلى بلورتها اليوم، وأكثر في المستقبل القريب في حال لم تنجح التسويات، يمكن تلمُّسها من هذه الفئة الوازنة لدى الجانبين وخارجهما، وهي التي باتت تحذر من الأسوأ في حال استمرار التجاذب والنزاع، بين الصهاينة.
هذه الفئة وغيرها، وتنضمّ إليها جهات وازنة في المؤسّسة العسكرية التي باتت تتلمّس من الآن ضرر ما يحدث عليها، تتحدّث عن تداعيات سلبية تكاد تكون دائمة، ما لم تنوجد الحلول والتسويات وتراجع قادة الطرفين عن تطرّفهما الحاد، ضمن معادلة “إمّا نحن وإمّا هم”. في هذه النقطة تحديداً، وما بعدها، يجب إعادة السؤال الجديد القديم، المترسّخ في العقل العربي: هل يهرب الكيان الصهيوني من أزته نحو الخارج ؟ السؤال لم يعد مبالغاً فيه، ولم يعد بلا أُسس، في حال اندفع الصهاينة أكثر لمزيد من التأزُّم والتجاذب والتوثُّب بينهم للإضرار بأنفسهم، إذ لم يعد يكفي الإجابة على هذا السؤال بأنّ الكيان لا يهرب من أزمته الداخلية وضررها ليتسبّب لنفسه بأزمة مع الخارج، تُكلّفه أضعاف مضاعفة من الأثمان والأضرار، ممّا يريد أن يهرب منه.
هل هذا يعني أن “إسرائيل” ستبادر إلى شنّ عدوان في الخارج؟ الجواب هو “لا .. ولكن”. لكن، كلّما ازدادت الأزمة الداخلية حدّة، وكلّما تحوّل الاحتجاج إلى مواجهات قاسية ومتطرّفة، وكلّما بات الاحتكاك المتطرّف بين الجمهورين ممكناً ومباشراً، كلّما كانت الإجابة بنعم (نسبياً) أكثر احتمالاً.
توجد معادلة هنا يجب أن تكون حاضرة: لن يبارد الكيان الصهيوني إلى شنّ عدوان، ليرَحِّل أزمته الداخلية إلى الخارج. الا في حال رأى في العدوان ترحيلا لتهديد داخلي سيتفلّت ويتسبّب له ما يفوق أي مخاطرة في عدوان خارجي، وما سيتسبّب به.