الواقعية السياسية تفرض الإعتراف، أن الزلزال المؤسف الذي عصف بالجنوب التركي والشمال السوري، وكانت له ارتدادات على أكثر من دولة مجاورة، بدا وكأنه إشارة قاسية لقدرة الطبيعة البيئية على الطبيعة البشرية، بوجوب الحدّ من السباقات النوعية والصراعات الفوقيَّة، خاصة بين الدول المتجاورة، التي تضرب بعضها عرض الحائط كل المواثيق الدولية لأهداف سياسية أو إقتصادية.
ولعل نقض الإتفاقيات الدولية في تقاسم المياه النهرية، كان لغاية الأمس من وسائل الحرب المشروعة، عبر بناء السدود على حساب المستفيدين الآخرين ضمن المعاهدة الواحدة بذريعة مواجهة تبعات التغيير المناخي، وبات مَن يمتلك النبع يُشرِّع لنفسه التحكُّم بمجاري المياه النهرية، والنزاعات قائمة على حصص المياه خاصة في الشرق، سواء كانت على سبيل المثال، بين تركيا وكل من العراق وسوريا في ما يتعلق بنهريّ دجلة والفرات، وبين أثيوبيا وكل من السودان ومصر على نهر النيل، إضافة الى تسلُّط العدو الصهيوني على مياه الريّ في النزاع مع الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة.
والسيول التي تدفقت من تركيا على كل من العراق وسوريا بعد وقوع الزلزال، ليست ناتجة عن انهيار أو تشققات جسيمة في بعض السدود المائية التركية، بقدر ما أن الواقع الفنِّي فرض الحذر من مئات الهزات التي تلت الزلزال الكبير والتي يُمكن أن تتسبب بانهيار سدود كبيرة، خاصة أن سد أتاتورك الذي يختزن 48 مليار متر مكعب، قد ظهرت به بعض الشقوق، وجرى فتحه لأن انهياره قد يؤدي إلى تدمير مدن وقرى تركية وعراقية وصولاً الى دول الخليج.
وإذ انتعشت واحات النخيل الجافة على ضفتيّ نهر دجلة في العراق، تدفَّق نهر الخابور نحو الحسكة في الشمال السوري بعد تجفيف مُتعمَّد دام ثماني سنوات، فإن النزاعات التي تحمل طابع الإستقواء واحتكار الموارد المائية عبر بناء السدود العملاقة، حتى غير المدروسة علمياً، سوف تنكمش الى درجة فرملة الكثير من الإنتهاكات لحقوق الغير بذريعة تكوين ما يعرف بالمخزون الإستراتيجي على حساب تصحير أراضي الآخرين.
نحصر الحديث عن تداعيات زلزال تركيا بمسألة المياه النهرية، لأن التعديات قد بلغت عالمياً شفير حرب المياه مباشرةً، خاصة خلال الثلاثين سنة الماضية التي بدأ الحديث خلالها عن التغيُّر المناخي والذوبان الجليدي والزحف الصحراوي، وقد عانت كل من العراق وسوريا من سياسة بناء السدود في تركيا التي بلغ عددها 579 سداً بمخزون إجمالي يبلغ 653 مليار متر مكعب، وكانت كل من السودان ومصر على وشك المعاناة نفسها بعد أن شيَّدت أثيوبيا سد النهضة دون مراعاة حقوق هذين البلدين، وهذا السد بالذات هو بيت القصيد في خلاصة المشكلة.
تداولت بعض وسائل الإعلام منذ يومين، ان سد النهضة في أثيوبيا قد ظهرت فيه بعض التشققات بعد وقوع زلزال تركيا، وإذا كانت بعض السدود التركية قائمة على فوالق بركانية ما أدى إلى حصول تشققات في سدَّي المالطية وأتاتورك نتيجة الزلزال، فما سبب ظهور تشققات في سد النهضة والمسافة بين تركيا وأثيوبيا تفوق 3500 كيلومتر؟!
الجواب بكل بساطة، أن بناء السدود في بعض الدول يخضع لمعايير ذاتية متباينة ضمن كل دولة، وإذا كان قد سبق لمصر والسودان أن شككتا بسلامة بناء سد النهضة، وأبدتا الخوف من انهياره بعد إتمام امتلائه، فما هي حقيقة سلامة السدود التركية القائمة أصلاً على شروخ وفوالق بركانية، وأين هي الجهة الدولية المطلوب منها الرقابة المسبقة والمواكِبة لبناء السدود في كل دولة بعد أن اعتبر الخبراء أن الزلزال التركي قد رفعت من مستوى قوَّته مخزونات السدود العملاقة؟
الجواب أيضاً، أن الزلزال الأخير قد وضع العالم أمام حقيقة جديدة، بأن النظر الى فوق حيث ثقب الأوزون، لا يُغني عن النظر الى الأرض للجم الصراعات على خيراتها وباطنها، وأن السيادة الداخلية لكل دولةٍ لا تنفي وجوب وضع رقابة على ما يحصل، جراء التعسُّف غير الطبيعي في أعمال تفجير المناجم وحفريات الآبار عبر الضغط الفائق على أعماق الطبقات الصخرية إضافة الى التجارب النووية وسواها من الإرتكابات التي تحصل تحت مُسمى السيادة الذاتية الى درجة بناء سدود تهدد الغير بما يفوق مخاطر قنابل نووية، وعسى مشهدية المباني القليلة التي صمدت بوجه الزلزال في المناطق المنكوبة توقظ الوعي بضرورة لجم البنيان العشوائي بمختلف القطاعات على حساب حياة البشر وأن سياسة علمية لمواجهة مخاطر الزلازل والعوامل الطبيعية العنيفة آن أوان اعتمادها عالمياً كبديلٍ عن المكابرة بإنجازات يُنهيها زلزال…
المصدر: بريد الموقع