لبنان هذا البلد العربي الذي رفع يوماً شعار قوة لبنان في ضعفه، هو نفسه لبنان الذي تمكن في أيار من العام 2000 تحرير أرض الجنوب اللبناني من احتلال إسرائيلي دام أكثر من 22 عاماً، انتهى بانسحاب جيش العدو انسحاباً ذليلاً من دون أي اتفاق سلام أو تطبيق التطبيع، وبلا قيد أو شرط ومن دون التنازل عن شبر واحد من حدوده البرية.
محاولات الالتفاف على انتصار لبنان لم تتوقف من قبل خصوم المقاومة في الداخل اللبناني، وخارجياً من قبل العدو الصهيوني وبمساعدة الولايات المتحدة الأميركية بالاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة «الملغومة» كأداة لتفريغ الانتصار الذي حققته المقاومة اللبنانية ومحاصرتها.
ومن تلك القرارات الملغومة
التعديل المبهم في الفقرة رقم 16 من قرار الأمم المتحدة الذي يمنح التجديد لعمل قوات اليونيفيل كقوة حفظ السلام، وضمن ضوابط وقواعد معينة متبعة منذ أن بدأت مهمتها في العام 1978 ومن دون إجراء أي تعديل على القواعد المتبعة.
يذكر أن قوات اليونيفيل لم تستطع منع العدو الإسرائيلي من الاستمرار في خرق السيادة اللبنانية، براً وبحراً وجواً بصورة متكررة، طوال الأعوام 1993-1996-1998-2006 وحتى يومنا هذا، بل إن اليونيفيل أما أنها كانت ضحية غدر العدو كما حصل في مجزرة قانا 1996، وأما أنها كانت تعمل بصفة جامع معلومات لمصلحة العدو الصهيوني.
الأسبوع الفائت فوجئنا بإدخال تعديل جوهري وخطير على عمل قوات اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان، أدخل التعديل في نص القرار 2650 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في غفلة من المسؤولين اللبنانيين وعلى حين غره، والذي جدّد فيه مهمة القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان لمدة سنة متضمناً تعديلاً يتجاوز المهمات المنوطة بها، وتحديداً في ما يتعلّق بحرية حركتها، من دون طلب التنسيق المسبق مع قيادة الجيش اللبناني، بما يسمح لليونيفيل بالوصول إلى اي نقطة أو منطقة في الجنوب، وتفتيشها وبمطلق الحرية ما يشكل خرقاً فاضحاً لسيادة لبنان.
اللافت أن مثل هذا التعديل كان تسبّب بمعركة سياسية خلال العدوان الإسرائيلي في تموز 2006، منعاً لمحاولة بسط سيطرة اليونيفيل على منطقة الجنوب بلا تنسيق مسبق أو رقابة من قبل قيادة الجيش اللبناني.
التعديل في قواعد قرار التجديد لليونيفيل، تقدمت به كل من الولايات المتحدة، بالتعاون مع فرنسا وبريطانيا، وبموافقة دولة عربية، قضى بمنح القوات الدولية حرية الحركة الكاملة في الجنوب اللبناني.
إن تعديل الفقرة رقم 16 من القرار 2650 الصادر عن مجلس الأمن لتجديد مهمة اليونيفيل في جنوب لبنان، هو مشروع إقحام المقاومة اللبنانية والبيئة الجنوبية في حرب حقيقية وافتعال فتنة مع قوات اليونيفل، لأن التعديل يعني تأمين حرية جمع المعلومات من الجنوب اللبناني والقيام بعمليات تجسس لمصلحة العدو الإسرائيلي، ويبقى السؤال:
طالما جرى التجديد لليونيفيل منذ العام 1978 من دون إجراء أي تغيير بالقواعد المتبعة فلماذا إدخال هذا التعديل وفي هذا الوقت الحساس وبتزامن مع ترسيم الحدود البحرية مع لبنان؟
على رغم نفي وزارة الخارجية اللبنانية علمها بالتعديل الحاصل، بيد أن لبنان الرسمي مطالب بتوضيح رسمي بالكشف عن الجهة اللبنانية المسؤولة التي أعطت موافقتها على هذا التعديل الخطير الذي يضع لبنان تحت مراقبة العدو الصهيوني المباشرة، وفي مواجهة دائمة مع قوات اليونيفيل.
أما الحدث الاخر فقد تمثل بمحاولة العدو الصهيوني مقايضة لبنان على حدوده البحرية مقابل التخلي عن نقطة الحدود اللبنانية المعروفة برأس الناقورة، والتي أقرتها اتفاقية «نيو كامب» الدولية الناظمة للحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وبناء عليه تم إبرام اتفاق الهدنة مع العدو في العام 1949.
نلفت إلى خطورة قبول بعض الجهات في لبنان، بمبدأ المقايضة على نقطة رأس الناقورة، استجابة للضغوط الأميركية، ولطلب العدو الإسرائيلي عبر الوسيط آموس هوكشتاين، الذي برر ذلك بأن اعتماد رأس الناقورة كنقطة حدود لبنانية، يهدد الأمن الإسرائيلي ويكشف كامل حيفا أمنياً، أما السبب الرئيسي هو في حال اعتماد نقطة رأس الناقورة كمنطلق لترسيم الحدود كما نصت اتفاقية نيو كامب وكما هو معترف به دولياً، فإن حدود لبنان البحرية سيكون الخط 29 بحري الذي يتضمن جنوب حقل كاريش وليس كما يشاع خط 23.
من أخطار القبول بهذه المقايضة المطروحة من قبل الوسيط هوكشتاين:
أولاً: تحويل لبنان القوي والذي حرر الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي إلى مجرد حارس لتأمين أمن إسرائيل.
ثانياً: حصول العدو الإسرائيلي على أهم نقطة أمنية وهي رأس الناقورة ما يمكن العدو السيطرة والتجسس من البحر وصولا إلى البر اللبناني بما يتجاوز قضاء صور بأكمله، وتمكينه من الحصول على ما حرم منه في 2006 من خلال القرار 1701.
ثالثاً: بمجرد قبول لبنان بالتنازل عن النقطة B1، يعني منح إسرائيل الحجة القانونية لرفع دعوى أمام المحاكم الدولية استناداً إلى قانون البحار UNCLOS، وبالتالي تغيير كامل الخط البحري اللبناني لاحقاً وصولاً إلى مدينة صيدا.
رابعاً: أي تنازل لبناني عن النقطة B1 أي رأس الناقورة لمصلحة العدو الإسرائيلي، يعني إجراء تغيير حتمي وجذري لكامل الحدود البرية اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وبالتالي يفقد لبنان أحقية التحفظ على منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر.
خامساً: أي تغيير في النقاط البرية للحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، يعني نسف كل الجهود التي بذلت في عهد الرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود في العام 2000 بعدما أصر الرئيس لحود على تثبيت نقطة رأس الناقورة تحديداً، كنقطة ارتكاز رئيسية معتمدة للحدود مع فلسطين المحتلة، ونتيجة لذلك الإصرار، نجح الرئيس لحود آنذاك بإقفال باب المساومة مع وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت، وحرمها تحصيل أي شبر من تراب لبنان أو إجراء أي تعديل في نقاط حدوده البرية لمصلحة العدو الصهيوني.
لبنان الذي يرزح تحت رحمة منظومة فاسدة متحكمة بمفاصل الدولة، هذه المنظومة أثبتت تواطئها وقبولها المساومة على حدود لبنان البرية والبحرية، وعلى ثرواته الطبيعية وهي منظومة سبق لها أن مارست عمليات النهب المنظم طبقاً لمصالحها الشخصية، غير عابئة بمصلحة لبنان واللبنانيين ولا حتى بمصلحة الأجيال.
هذه المنظومة الحاكمة هي الأخطر على لبنان كوطن وعلى مر التاريخ، لأنها وضعت مستقبل لبنان تحت مقصلة البنك الدولي ورهنت قراره السيادي لمصلحة الغرب وأميركا وإسرائيل، وأيضاً هي منظومة متواطئة لتحويل لبنان إلى أوطان طائفية ومذهبية، يسهل معها توطين اللاجئين الفلسطينيين وإدماج النازحين السوريين في المجتمع اللبناني، وذلك لطمس القضية الفلسطينية ولتشتيت المجتمع السوري، نزولاً عند طلب الجهات الدولية الراعية والحامية لتلك المنظومة الحاكمة في لبنان، والتي هي غير عابئة بمصلحة وطن اسمه لبنان الذي تفتت وتحللت مؤسسات الدولة فيه وأضحى بقايا وطن ومهدد بالزوال.
نختم بالسؤال: هل هذا لبنان القوي الذي انتصر على العدو الاسرائيلي ونجح في إرساء قواعد الردع؟
هل ينجح العدو الصهيوني في جعل لبنان بقايا وطن وبالتالي تحقيق ما عجز عن تحقيقه في الحرب؟
بانتظار الأجوبة الشافية في الأيام القادمة.
المقالات المنشورة من موقع المنار تعبّر عن رأي كاتبيها وليست بالضرورة متبنّاة من ادارة الموقع