شهدت مملكة البحرين يوم الخميس الماضي حدثا مفاجئاً تمثل بقرار صادر عن الديوان الملكي قضى بإقالة رئيسة هيئة الثقافة والآثار الشيخة مي بنت محمد آل خليفة من منصبها، وتعيين الشيخ خليفة بن أحمد بن عبد الله آل خليفة خلفًا لها.
حدث الإقالة بحد ذاته يبدو للوهلة الأولى أمراً عادياً خصوصاً في بلاد تعودت إقالة وزير واستبداله بوزير آخر لمجرد قرار ملكي، إنما أهمية حدث إقالة رئيس هيئة الثقافة والآثار في البحرين وهي بمرتبة وزير، تكمن في الأسباب الحقيقية التي دفعت ملك البحرين، إلى اتخاذ قرار بحجم إقالة وزيرة في الحكومة البحرينية.
لقد جرت العادة بارتباط اسم المسؤول المقال بعملية رشوة أو بفساد أو بعدم كفاءة، ما يعني الإضرار بمصالح الدولة، لكن ما حصل مع الوزيرة البحرينية لا يمت لتلك الأسباب بأي صلة، خصوصاً أن الشيخة مي قد عملت في حقل الإعلام والثقافة لأكثر من 20 عاماً، شهدت خلالها البحرين نهضة ثقافية وإعلامية لافتة، كما أن مي تعدّ من الشخصيات المرموقة والمحترمة في المجتمع البحريني، وهي من أبناء الأسرة الحاكمة، وكاتبة وباحثة وسياسية ولدت في البحرين، وحصلت على البكالوريوس والماجستير في السياسة، بالإضافة إلى ذلك شغلت عدداً من المناصب وتم تعيينها كوزيرة للثقافة والإعلام لدول مجلس التعاون الخليجي، وكان آخر مناصبها الإدارية توليها منصب هيئة البحرين للثقافة والآثار منذ عام 2015.
إذاً ما الأسباب الحقيقية وراء قرار إقالة مي؟
وفقاً للمعلومات الواردة فإن القرار جاء بسبب رفض الشيخة مي لعملية التطبيع الجارية بين البحرين والعدو الإسرائيلي، الأمر الذي عبّرت عنه مؤخراً وبوضوح، وذلك بعد رفضها مصافحة سفير الكيان الصهيوني في المنامة، وجاء ذلك خلال مجلس عزاء خاص أقامه السفير الأميركي في منزله في العاصمة البحرينية، في 16 حزيران الماضي بمناسبة وفاة والده، ودعا إليه سفراء ومسؤولين من بينهم سفير العدو الإسرائيلي في البحرين.
وتلبية للدعوة الموجهة لها، قررت مي تقديم واجب العزاء في منزل السفير الأميركي، وأثناء دخولها المجلس والمباشرة بمصافحة الحاضرين من رسميين وسفراء قام مسؤول المراسم الأميركي بتعريف الشيخة مي على الحاضرين، وفي لحظة تعريفها بسفير الكيان الصهيوني في البحرين إيتان نائيه، ما كان من مي والمتحدرة من العائلة الحاكمة، إلا أن رفضت مصافحته، وعلى الفور انسحبت من منزل السفير الأميركي وطلبت من السفارة الأميركية في البحرين عدم نشر أي صورة لها تظهرها في العزاء.
لطالما رفضت الشيخة مي، وعلى الدوام، تهويد أحياء قديمة في العاصمة البحرينية، كما أنها منعت مستثمرين يهوداً من تشييد حي يهودي من باب البحرين حتى الكنيس اليهودي في المنامة، واستضافت في تشرين الثاني 2021، المؤرخ والمفكر اليهودي إيلان بابيه في ندوة طرح خلالها وعلناً بأن «الحل المستقبلي المنشود للقضية الفلسطينية، يتمثل في إلغاء الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني لفلسطين»، وجرى ذلك في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في البحرين، وتديره مي بشخصها.
«إذا عرف السبب بطل العجب»..
اذاً سبب إقالة الوزيرة من منصبها يكمن في رفضها مصافحة سفير الكيان الصهيوني في البحرين، إضافة لمواقفها العلنية الرافضة لعملية التطبيع الجارية مع العدو في ظل المحاولات الرامية إلى تهويد القدس وطمس القضية الفلسطينية.
الإقالة أحدثت ضجة في الأوساط الإعلامية والثقافية تخطت حدود البحرين، حيث رحبت مجموعة هائلة من المثقفين في كل الوطن العربي، بموقف مي الرافض للتطبيع مع العدو الإسرائيلي وأشادت به، مؤكدة أنه «تعبير حقيقي عن مواقف الشعب البحريني الأصيل الداعمة للحق الفلسطيني والرافضة لدمج الاحتلال في المنطقة العربية».
الفصائل الفلسطينية وعلى مختلف مشاربها عبرت عن تضامنها الكامل مع مي والتي اتخذت موقفاً عملياً جريئاً وحاسماً في رفض التطبيع، غير آبهة بالعواقب، لتجسد بذلك الإرادة الحقيقية للشعب العربي ولأحرار وحرائر الأمة العربية.
وعلى منصات التواصل، عبّر مغردون ومثقفون من كل الوطن العربي عن تضامنهم مع الوزيرة البحرينية واصفين موقفها بـ«البطولي»، نتيجة إصرارها وعدم تراجعها عن مبادئ الشعب العربي التي لا تتجزأ، مقدرين مواقفها العروبية الأصيلة والثابتة تجاه القضية الفلسطينية في ظل موجات التطبيع الحاصلة.
وزير الثقافة الفلسطيني السابق إيهاب بسيسو علق على خبر إقالة الشيخة مي محمد بالقول: «كما أعرفها جيداً وأفخر دوما بمعرفتها، وأحرص على التعلم من ثراء تجربتها ومدرستها الفكرية الثرية بالقيم الإنسانية والوطنية الصادقة، مبدعة ومجددة ورائدة حقيقية كما هي أخت قديرة وعزيزة لها مكانتها في قلوبنا، نحن الذين عرفناها ونعرفها عن قرب».
اما الدكتورة الكويتية سعاد بنت محمد الصباح كتبت رسالة مؤثرة موجهة إلى مي جاء فيها:
«في الحياة إضاءات لا تتكرر ومواقف لا تقبل اللون الرمادي، تلك التي ندفع ثمنها بسعادة بالغة لا نظير لها، أما اليد التي لا تصافح في المواقف التي تستوجب الامتناع هي التي علينا أن نُقبّلها».
الوزيرة البحرينية المقالة قالت في تغريدة لها: «من القلب ألف شكر لكل رسالة وصلتني، وحدها المحبة تحمينا وتقوّينا».
أثناء زيارة سعد زغلول لبريطانيا من أجل التفاوض، طلبت منه مراسم البروتوكول البريطاني الانحناء ولو قليلا احتراما للملكة، حينها وافق سعد زغلول على طلب البروتوكول، لكن عند لقائه الملكة لم يقو على الانحناء، وعندما سألوه لماذا لم تفعل قال: «شعرت بأن الشعب المصري كله يسحبني للخلف ويمنعني من هذا الانحناء».
في كتابه للحقيقة والتاريخ يقول رئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص: «إن سلاح الموقف هو أمضى سلاح لأن الموقف هو تعبير صادق عن فعل إيمان بالحق».
إن الموقف المشرف للشيخة مي أقوى من أي سلاح لأنه تعبير صارخ عن نبض الشعب العربي الرافض لعملية التطبيع مهما طغت الحكومات العربية المطبعة.
موقف الشيخة مي الأصيل جاء ليترجم نبض الشعوب العربية، غير عابئة بالمراكز ولا بالوزارات، وهو موقف نابع من إيمان راسخ بالحق وبالقضية الفلسطينية، وبأن هذا العدو الإسرائيلي محتل للأرض العربية ولا يمكن دمجه في منطقتنا مهما أوغلت السلطات الحاكمة بعملية التطبيع.
المثقفون هم أهل الدار الدائمون في الوطن أما الحكومات عبارة عن ضيوف على الوطن يأتون ويرحلون.
نختم بالقول
لقد أثبتت الشيخة مي بنت محمد آل خليفة بموقفها الرافض للتطبيع مع الكيان الصهيوني أنها المثقفة الدائمة وبحجم تطلعات الشعب العربي.