بقلم الدكتور حسن أحمد حسن
يوم القدس العالمي لم يعد مجرد ذكرى تخرج فيها الحشود المليونية نصرة للقدس والأقصى، ودعماً للحق والمظلومين في مواجهة الطغيان والعربدة الصهيونية المتناقضة مع كل القيم الإنسانية وأعراف المجتمع البشري والقانون الدولي، بل تحول هذا اليوم المجيد من ذكرى إلى ذاكرة حية عامرة بالمعاني والدلالات الغنية المتجددة كل عام، والقادرة ـ ليس فقط على تجديد المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية ـ بل على دب الذعر والخوف في قلوب أحفاد قتلة الأنبياء ومن يشد على أيديهم الشريرة الآثمة، وهذا يعني أن هذا الجزئية من الذاكرة الجمعية لا الفردية تحمل في تلافيفها تباشير جديدة موضوعية وعقلانية تؤكد أن كيان الاحتلال الإسرائيلي إلى زوال، وهذا الزوال يقترب أكثر فأكثر مع كل مرة تلوح فيها بيارق “يوم القدس العالمي” ولن يفيد الكتلة السرطانية المزروعة فوق الجغرافيا الفلسطينية دعم قوى الشر والطغيان والاستكبار العالمي مهما امتلكت من أدوات قتل وتدمير وإبادة، لأن إرادة المؤمنين بعدالة القضية الذين يحملون مشعل الجهاد المقدس في سبيلها هم على يقين بأنهم على موعد أكيد مع نصر ناجز وحتمي وقريب إن شاء الله، وتباشيره تلوح واضحة في الأفق، وإن غداً لناظره قريب.
استناداً إلى ما سبق بخصوص تحول الذكرى إلى ذاكرة، وانطلاقاً من اليقين التام بأن يوم القدس العالمي هو اليوم الأقدس من أيام كل عام يصبح التوقف عند بعض معانيه ودلالاته أقرب إلى الفرض من النافلة، ويمكن باختصار شديد الإشارة إلى بعض أهم النقاط التي يجب التوقف عندها ومنها:
• عمق الرؤية الإستراتيجية التي منَّ الله بها على سماحة الإمام روح الله الموسوي الخميني قدس سره الشريف الذي دعا ليكون يوم الجمعة الأخيرة من كل رمضان يوماً عالمياً للقدس، وها هي هذه الثمرة الخالدة المتجددة التي فاضت على يديه الطاهرتين، ترغم القادة والمسؤولين والمفكرين وجنرالات المحور المعادي ومراكز الدراسات الإستراتيجية في الدول العظمى على الانكباب لبحث هذه المعضلة التي تحولت إلى كابوس يقض مضاجع صناع القرار الصهيو ـ أمريكي وجميع الخائبين الذين يدورون في فلكهم الآسن المأفون، وهاهم جميعاً بقضهم وقضيضهم وترسانات أسلحتهم وإمبراطورياتهم الإعلامية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والاستخباراتية و.. و… يقفون عاجزين عن إطفاء شعاع نور، وجذوة حق أطلقها قائد الثورة الإسلامية في إيران قدس سره.
• استمرارية الزخم المعنوي والعملي لهذا اليوم المجيد بإشراف مباشر ومتابعة على مدار الساعة من سماحة القائد الخامنئي دام ظله الوارف، وتجذر المعاني التي يحملها هذا اليوم الأقدس عبر قرن القول بالعمل، وتقديم النموذج الأنصع على استعداد كامل محور المقاومة للذهاب إلى أقصى حد ممكن، وترك جميع السيناريوهات مكشوفة على الطاولة وجاهزة للتطبيق كرمى القدس والأقصى الشريف، وهذا ما صرح به بوضوح لا لبس فيه سماحة السيد حسن نصر الله مؤكداً أن أية محاولة للعبث بورقة القدس تعني حتماً حرباً إقليمية، وحكام تل أبيب يدركون ماذا يعني مصطلح حرب إقليمية، وهم متيقنون أنها قادمة لا محالة، ولذا يعملون على تأجيلها أطول وقت ممكن لقناعتهم أنها تعني حتمية زوال تلك الكتلة السرطانية “إسرائيل”.
• الوفاء المطلق لقيم الثورة الإسلامية ومبادئها وما يصدر عن سماحة مرشدها وقائدها العام من توجيهات تستند إلى أن العمل لتحرير فلسطين تكليف شرعي على الجميع المسارعة للمساهمة في تأديته، ويكفي الثورة الإسلامية الإيرانية فخرا أن أهم فيالق الحرس الثوري يحمل اسم القدس هوية وعقيدة قتالية تستعذب الموت في سبيل تنفيذ الواجب المقدس، وقد تبلور هذا الوفاء بأسمى معانيه، وأروع تجلياته في استشهاد قائد فيلق القدس سيد شهداء محور المقاومة الجنرال قاسم سليماني، بعد أن تمكن من تحصين المقاومة الفلسطينية بكل ما يمكّنها من امتلاك عوامل القوة الذاتية لتعفير أنوف الجنرالات الصهاينة بأوحال الهزيمة والذلة والانكسار، وبقي رحمه الله حتى النفس الأخير وهو يحمل حب القدس في فكره وقلبه وروحه ووجدانه.
• الإحياء الدوري المنتظم ليوم القدس العالمي، وتمسك طهران الثورة بتصنيف الأعداء والأصدقاء انعكس إيجاباً على بقية أقطاب محور المقاومة، وفي مقدمتهم سورية الأسد واسطة العقد المقاوم التي تبنت شعار مركزية القضية الفلسطينية وبقيت متمسكة بهذا الشعار، ومجسدة له في كل مواقفها طيلة عقود، وعلى الرغم من كل ما عانته سورية على امتداد أكثر من أحد عشر عاماً من أقذر حرب عرفتها البشرية بقيت متمسكة بثوابتها، ومعلنة أن القضية الفلسطينية تبقى القضية المركزية التي ترخص في سبيلها التضحيات، وقد سبق أن أوضح سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن صواريخ “الكورنيت” التي غيرت معادلة المواجهة مع جيش العدو الإسرائيلي بعد وصولها إلى المقاومة الفلسطينية، وتلك الصواريخ هي التي كان لها الدور الفاعل في تغيير اللوحة الميدانية أيام حرب تموز وآب 2006، وقد حولت فخر الصناعة الإسرائيلية “الميركافا” إلى كتل من لهب على أيدي مقاتلي حزب لله الأبطال الذين حصلوا عليها من مخازن الجيش العربي السوري، ووضع بعضها لاحقاً تحت تصرف المقاومة الفلسطينية بموافقة السيد الرئيس بشار الأسد.
• يطل يوم القدس العالمي هذا العام بحلة جديدة وفريدة، وفي بيئة إستراتيجية إقليمية ودولية تحمل الكثير من المتغيرات الجوهرية التي تستحق تخصيص أكثر من دراسة تحليلية مستقلة، ومع ذلك يمكن الإشارة السريعة إلى عدد من النقاط لمهمة،ومنها:
1- انحسار السطوة الأمريكية، وتراجع نفوذ واشنطن وقدرتها على فرض الإرادة وفق ما تشاء، إلى درجة يذهب فيها الكثير من القادة والمفكرين والباحثين إلى القول: إن نظام الأحادية القطبية قد احتضر، وإن لم تعلن وفاته، كما أن نظاماً عالمياً جديداً يتبلور، وإن لم يتم رسمياً الاعتراف بولادته، وقد أشار سماحة القائد الخامنئي إلى أن العالم اليوم على أعتاب نظام عالمي جديد، وهذا النظام يتشكل الآن بعد مرحلة النظام العالمي الثنائي القطب ونظرية النظام العالمي الأحادي القطب، وبالطبع صارت أمريكا خلال هذه المرحلة أضعف بكثير مما كانت عليه في السابق، وعلى الدول أنْ تتحمل مسؤولية الحضور في هذا النظام الجديد على نحو يمكّنها من توفير مصالح شعوبها وبلدانها.
2- ازدياد فاعلية المقاومة الفلسطينية وقدرتها على التحدي والتصدي مقابل تآكل أوراق الهيبة والترويع التي كان يتبجح بها قادة تل أبيب، والشواهد الحية على ذلك كثيرة، وقد تكثفت واتضحت معالمها بجلاء بعد معركة سيف القدس التي بترت الذراع التي كانت تسعى لفرض ما أسموه “حارس الحدود” ،وهذا ما أوضحه قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي في كلمته المتلفزة مؤكداً أن الأنظمة الأمنية في كيان الاحتلال باتت تعرف نقاط ضعفها أكثر من أي وقت مضى، وأنه لا يمكن لأي قوة أن تستجيب لاستغاثات هذا الكيان، وقد بات يعاني من هشاشة في دعائمه الأساسية.
3- المظاهرات المليونية التي تشهدها مدن كثيرة في العديد من دول العالم بمناسبة يوم القدس العالمي تؤكد انتشار الفكر المقاوم وتجذره أفقياً وعمودياً، وتثبت أن أنصار الكرامة والسيادة وقيم الحق يمتلكون فرصة ذهبية لإعلاء كلمتهم، ورفض الانصياع للإملاءات والشروط الأمريكية في هذا الوقت الذي تعاني منه الإدارة القابعة في البيت الأسود في واشنطن الكثير من عوامل التوتر والاضطراب التي أفرزتها مكامن الضعف المستجدة على الواقع الأمريكي سواء داخل المجتمع الأمريكي نفسه، أو على مستوى العلاقات المتوترة مع العديد من القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً وفي مقدمتهم روسيا الاتحادية والصين، وهذا الأمر على غاية من الأهمية، ويمكن أن يبنى عليه الكثير.
4- إيران الثورة اليوم قوة إقليمية وازنة ورائدة، ولا أحد يستطيع تجاهل دورها المركزي المؤثر، ولا القفز فوق فاعلية هذا الدور الذي يتعاظم ويشتد يوماً بعد آخر، فإيران اليوم دخلت النادي النووي، ولن تفيد المماطلة بايدن وإدارته، كما لن تفلح سياسة الدسائس والخبث والمكر التي ينفذها الكيان الصهيوني وداعموه بهدف تشظية دول المنطقة، والعمل على زرع بذور الفرقة والاقتتال وإثارة الفتن والقلاقل في جميع الدول التي ترفض الانصياع لمشيئة البيت الأبيض، وإيران الثورة اليوم ضمن نادي التصنيع العسكري الثقيل في البر والبحر والجو، وحتى الفضاء الخارجي.
5- على العكس مما كان يسعى إليه حكام تل أبيب نرى اليوم وهج المقاومة ينتشر على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، وقد انضم عرب 48 إلى الحراك الفلسطيني الواعد بتحقيق الكثير من الإنجازات ومراكمتها وتحصينها لتبقى صالحة للاستثمار بها، كما تم الإعلان رسمياً عن امتلاك المقاومة الفلسطينية لصواريخ مضادة للأهداف الجوية، وكذلك الأمر المتعلق بالمسيرات الحربية المصنعة في الداخل الفلسطيني، والتي أرخت بظلالها الثقيلة على المسؤولين والمستوطنين الصهاينة، وهم يرون بأم العين أنه في كل مرة تحاول فيها تل أبيب خلق عوامل ردع جديدة سرعان ما تتبدل الصورة لتصب في مصلحة المقاومة وعلى امتداد الجغرافيا الفلسطينية.
خاتمة:
لا خوف على القدس، ولا على المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين طالما أن عشاق القدس والأقصى قد عقدوا العزم، وأعدوا كل ما يلزم لإرغام أصحب الرؤوس الساخنة على إعادة حساباتهم أكثر من مرة قبل التفكير بأي تصعيد ميداني دراماتيكي سواء في داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، وسيبقى يوم القدس العالمي لوحة زاخرة بكل مكونات العزة والسيادة والقدرة والكرامة، ولن يطول اليوم الذي يعلم فيه الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون، وكل عام والقدس وأقصاها الشريف بألف خير.
دمشق في 28/4/2022
المصدر: خاص