خمسة عشر عاما مرت على كلمة للرئيس الروسي، حدث ذلك في 10 شباط 2007، حين ألقى فلاديمير بوتين كلمته الشهيرة أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، هاجم خلالها بشدة السياسة الخارجية الأميركية، وفكرة النظام العالمي أحادي القطب، وانتقد خطط توسع «الناتو» ونشر منشآت الدفاع الصاروخي الأميركية في أوروبا الشرقية وعلى حدود روسيا.
خطاب بوتين حينها تضمن أسئلة وجهها للغرب، دون الحصول على إجابات بشأنها حتى الآن، ومع تراكم الزمن تحولت الأحداث والتطورات، إلى أحد أبرز الإشكالات العالقة اليوم بين الجانبين والمتعلقة بملف الضمانات الأمنية.
بوتين حينها تعمد اقتباس ما جاء في خطاب الأمين العام الأسبق للناتو مانفريد فورنر ببروكسل في 11 أيار 1999 حين صرّح قائلاً: «إننا مستعدون لعدم نشر قوات الناتو خارج أراضي جمهورية ألمانيا الاتحادية، وهذا يمنح روسيا ضمانة أمن راسخة»، وختم بوتين متسائلاً، أين هي هذه الضمانة اليوم وخاصة في أوكرانيا؟
إذا تعمقنا بما قاله بوتين في مؤتمر ميونخ 2007، نجد بأن الغرب تعمد إخفاء نياته الحقيقية الهادفة إلى محاصرة روسيا، وأن الهواجس الروسية كانت محقة ومفصلية من مغبة مخاطر التوسع الغربي، وجعل أوكرانيا ذات وظيفة عدائية في محاصرة روسيا مشابهة تماماً لوظيفة الكيان الصهيوني في محاصرة دولنا العربية.
في 24 من شهر شباط المنصرم وقعت الواقعة، ولم يعد أمام روسيا إلا اتخاذ القرار الإستراتيجي، والقيام بعملية عسكرية استباقية ضد أوكرانيا، تحفظ الأمن القومي الروسي خصوصاً بعدما أقرّ بوتين نفسه، أن أوكرانيا تمتلك تقنية الأسلحة النووية وأن صواريخها يمكنها بلوغ روسيا بظرف 8 دقائق فقط.
أعتقد الكثير أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا شأنها شأن العملية العسكرية الروسية في جورجيا 2008، بيد أن تطور الأحداث وخسائر الروس غير المتوقعة في أوكرانيا، وضع الجميع أمام استحقاق بأن ما يجري في أوكرانيا والدونباس هي معركة وجود وليست معركة حدود.
روسيا اليوم باتت تخوض حرباً ليست للحد من تهديدات أوكرانيا للأمن القومي الروسي، بيد أن روسيا أضحت في خضم صراع عالمي غربي أميركي، إن لم نقل أنها تخوض حرباً عالمية ثالثة وعلى المستويات كافة، الإيديولوجية والعسكرية والاقتصادية المتبعة، والتي يتشكل منها النظام العالمي الحالي الأحادي القطب.
البعض ظن أن أميركا والغرب حققا المبتغى في جر روسيا إلى مستنقع شبيه بمستنقع أفغانستان، خصوصاً بعد دعاية الإعلام الغربي الأميركي بتوصيف المقاومة الأوكرانية ضد القوات الروسية بأنها مقاومة أسطورية، وما تدفق مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة إلى أوكرانيا من قبل دول الناتو وأميركا، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية الجائرة ضد روسيا، إلا بهدف إطالة أمد الحرب وإنهاك روسيا، أملاً بإعادة حساباتها وتراجعها عن تحقيق أهدافها المعلنة في نهاية المطاف.
بناء على ما تقدم، وبعد مرور أكثر من شهرين على العملية العسكرية الروسية، نستطيع القول إننا دخلنا مرحلة عض الأصابع وأن الحرب في أوكرانيا ستطول على عكس كل التوقعات، ليبرز السؤال عن الجهة التي ستصرخ أولاً من ألم الأصابع.
حتى الآن كل المؤشرات تقودنا إلى أن روسيا نجحت في تحقيق جميع أهداف المرحلة الأولى من العملية العسكرية، وأن الاقتصاد الروسي بقي متماسكاً إن لم نقل متيناً، خصوصاً بعد قرار بوتين بيع المشتقات النفطية والغاز الروسي بالروبل الروسي، قرار أسهم برفع قيمة العملة المحلية بروسيا، فيما الغرب عموماً أصيب بالشلل الاقتصادي، تراه يجني نتائج عكسية من العقوبات المفروضة على روسيا، وبدت أوروبا كمن أطلق النار على قدميه.
الرئاسة الروسية قالت إن «روسيا قادرة على تحمل المواجهة مع الدول الغربية»، معتبرةً أنه «في عالمنا المعاصر لا يمكن لدولة أن تحتفظ بسيطرتها على العالم، والوضع في العالم أكثر تعقيدا اليوم مما كان عليه في الحرب الباردة».
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وبعد سقوط منطقة ماريوبل كشف عن الهدف الأساسي للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا قائلاً: كان هدفنا تحرير منطقة الدونباس من النازيين الجدد وحماية أمننا القومي، وبعدما حققنا أهداف المرحلة الأولى، فإن هدفنا الرئيس صار وقف الهيمنة الأميركية الأحادية، ومن شأن ذلك قيام نظام عالمي جديد عادل ومتعدد الأقطاب قائم على احترام قرارات الشرعة الدولية، لافروف أردف قائلاً: أنا مقتنع بأنه في أعقاب هذه المرحلة، ستتضح ملامح الوضع الدولي بشكل كبير».
بدوره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الفائز بفترة رئاسية ثانية كقائد سياسي للاتحاد الأوروبي قال: «إن العالم يمر بفترة تحول عالمي، ولم يعد عالماً أحادي أو ثنائي القطب، بل عالم سيصبح متعدد الأقطاب»، لافتاً إلى أن الصين ليست مستعدة للضغط على روسيا، وأن دول الخليج اتخذت موقفاً محايداً بسبب موقفها المشكك في الولايات المتحدة، وأن العديد من الدول الإفريقية أيدت روسيا واختارت عدم الانحياز.
في 15 من نيسان الحالي أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن غرق الطراد الروسي موسكڤا، وهو القطعة الأهم للأسطول البحري الروسي العاملة في البحر الأسود، ورغم اختلاف الروايات حول مسببات غرق موسكڤا، بيد أن الحادثة شكلت ضربة قاسية للبحرية الروسية، ما يعتبر تحولاً مفصلياً في مجريات وتطور الأحداث في الحرب على أوكرانيا، ونستطيع القول إن ما كان ممكناً بوجود موسكڤا، لن يكون مقبولاً بعد إغراقه، وقريباً سيدرك الغرب ومعه أميركا أن موسكڤا تحت الماء أخطر من كونها فوق الماء، وأن ما بعد غرق موسكڤا لن يكون كما قبله.
بعد حادثة إغراق موسكڤا، ظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلناً عن سيطرة قوات بلاده على كامل مدينة ماريوبول الأوكرانية، باستثناء مصنع «آزوفستال» الذي يتضمن مدينة متكاملة من الانفاق الممتدة لعدة كيلومترات تحت الأرض، ويتحصن فيها نحو ألفي مقاتل من فصيل ازوف النازي بحجة رفض الاستسلام، فيما الحقيقة تكمن بحماية مختبرات مخصصة لانتاج الأسلحة البيولوجية يديرها خبراء من الناتو والغرب لمصلحة البنتاغون الأميركي، وخوفاً من انكشاف هويتهم وحقيقة عملهم في معمل آزوفستال.
الرئيس الروسي بوتين تلقى أكثر من مئة اتصال من زعماء ورؤساء دول غربية وأوروبية، وحتى أنه تلقى عروضاً سخية باستعداد الإدارة الأميركية إلغاء جميع العقوبات المفروضة على روسيا، لكن ليس لوقف الحرب على أوكرانيا، إنما للمطالبة بضمان إطلاق خبراء الناتو الموجودين تحت الأرض في معمل آزوفستال وضمان عدم انكشاف الأمر، بيد أن الرئيس الروسي قابل ذلك بالرفض المطلق، كون الكشف عن هؤلاء الخبراء وهوياتهم وماهية عملهم في معمل آوزوفستال، من شأنه تعرية الغرب وأميركا أمام العالم الأمر الذي سيؤدي إلى صراخ غربي أميركي جراء عض الأصابع، الناتج عن حصول روسيا على عناصر تفكيك الركائز الاساسية للنظام الأحادي الحالي، والشروع في بناء أسس نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
المصدر: خاص