منذ العام ٢٠٠٠، استهل زمن الانتصارات دون إدراك مؤكد مسبقا، ذلك أن تطورات التاريخ تسير بمسارات خارجة عن إرادة الناس، وقد تخفي في طياتها أسرارا كامنة، لا تفصح عنها، فتأتي التطورات الموضوعية لتلفت الانتباه إليها، وتجسدها حقيقة قائمة.
لم يكن أمام المقاومة للعدو الاسرائيلي، رأس حربة الوجود الاستعماري الامبريالي في المنطقة، إلا المقاومة والقتال، فابتدعت اساليب وتقنيات للمواجهة، يمكن القول انها كانت “ابنة وقتها”، وبما تيسر، وبما ابتدعته بعفوية، لكن بنباهة، وذكاء، وحرص مخيلات المقاومين، وما “مليتا” الا نموذج لذلك، وقد احتضنت بواكير تجارب المقاومة، لتكر السبحة في ما بعد، وتتسجل انتصارات متدحرجة وصولا الى حرب غزة الأخيرة، مرورا بال ٢٠٠٠، وحرب تموز ٢٠٠٦، وكل المعارك التي تلت، وكانت غالبية التجارب تجري بما تيسر من أسلحة ومبادرات.
وتأتي حرب غزة الأخيرة، لتسطر تطورا نوعيا في المواجهة، وتقدما تاريخيا في مسار الصراع مع العدو الصهيوني ولتقرب المسافة كثيرا من العودة التي باتت أمرا بديهيا بنظر غالبية الفلسطينيين. باتت المقاومة في موقع الهجوم، والاسرائيلي في موقع المتردد، رغم اعتماده على طيران أكثر تطوراً، وقدرةً تدميرية.
حرب غزة الأخيرة جمعت بين البداهة، والفطرة، والمبادرة، من جهة، وبين التخطيط والرد المدروس، من جهة ثانية، لكن بشكل عام، كانت المواجهة تطورا نوعيا بين عفوية الماضي، وإدارة المواجهة بصورة جديدة وجيدة.
حرب غزة الأخيرة تستدعي مواكبة تطوراتها العسكرية بتطوير خطابها السياسي والتعبوي، وخلق لغة جديدة شبيهة باللغة التي برزت عقب حرب ٢٠٠٦، والتي كان سيد المقاومة مطلقها، مثل “إنه زمن النصر”، و”نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون”، و”ما بعد بعد حيفا” وغيرها من عبارات تحولت لغة تعبوية تسري على ألسنة الناس، والمقاومين، كالنار في الهشير، وتتكرس لغة دائمة، ترفد الناس قوة، وثقة بالنفس.
ومما هو مطلوب للمرحلة المقبلة، والمفترض أن يكون للمعركة الأخيرة المقبلة، كما وعد عدد من قادة المقاومة في “حماس”، والجهاد الإسلامي، والتي ما فتيء قادة إيرانيون يرددون، تكريس لغة العودة ك”العودة أقرب”، ونحن قامون يا قدس”، و”العودة عائدة”، ولغة تشدد على نهاية الصراع لصالح المقاومة، والشعب الفلسطيني، تؤمله بتحقيق ما يصبو إليه منذ سبعين عاما وأكثر.
أما مسألة العودة الحتمية، فهي من ضرورات فهم المقبل من المعارك، إن لم نقل المعركة الأخيرة المقبلة، خصوصا لما حققه الشعب الفلسطيني بكل مكوناته في فلسطين التاريخية- أراضي ال٤٨ والضفة والقطاع- من مشاركة أبان الحرب الأخيرة، ولما كان يسعى إليه منذ عشرات السنين، وقد كرس الكثير من حالات التحضير للعودة التي هي هدف كل حرب كحرب غزة.
يحتاج تجديد الخطاب المواكب لعملية التحرير المتقدمة بتؤدة، إلى الكثير من الجهد، والمبادرات، بمواجهة إعلام محترف ومدروس في الغرف السوداء الأوروبية والأميركية، لمنع إحباط الجماهير، وللمزيد من رفع معنوياتها، إضافة لتكريس مفاهيم ترتبط مباشرة بالعودة، والتحرير النهائي.
والملاحظ أن الإعلام الخصم إعلام مدروس، وشديد التركيز. يستفيد من التقنيات الحديثة، ويوظفها في معاركه، عبارة عبارة، وكلمة كلمة، عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتوزيعها بدون استئذان للناس. نلاحظ ذلك في الرسائل التي تردنا على هواتفنا الذكية، وحساباتنا الالكترونية، وكلها من الخصوم، تحمل لغته، وتروج استهدافاته للمقاومة، وكل الداعمين لها، والسائرين في ركابها، بينما لا نلاحظ أيا منها من مواقع مؤيدة للمقاومة وحلفها، او رسائل موزعة منها تدافع عن المقاومة، وتفضح ممارسات الخصوم.
في هذا الإطار، يفترض وضع خطة إعلامية هادفة، ومركزة، ومتنوعة المشارب، واللغة، لإطلاق حملة إعلامية تقودها مجموعة من خبراء السياسة، والإعلام، واساتذة الجامعات المتخصصين بالإعلام، وبعلم النفس الاجتماعي، والتطوير الالكتروني، تتناسق فيما بينها، وتطلق حملات يومية هادفة، بما يشبه غرفة عمليات إعلامية، وتقوم بجهد يدافع عن محور المقاومة، ويكرس رؤاها، وأدبياتها، وشعائرها، والأهداف الساعية لتحقيقها، بخلق العديد من وسائل التواصل، إن بالفايسبوك، أم بالتويتر، أم بالانستغرام وسواها، كما بناء العديد من المواقع الإلكترونية تقوم بنشر المتوجب، وبثه باتساع، وعلى أكبر قاعدة شعبية.
وعلى صعيد إدارة مواجهة المعركة، فقد تكرست بين ال٢٠٠٠، وال٢٠٢١، غرفة عمليات دائمة للمقاومة، ولعبت دورا هاما في تفعيل التنسيق بين مكوناتها، وأطرافها، وقواها، ويفترض بهذه الغرفة أن تتحول إلى ما يشبه قيادة عسكرية موحدة، تشارك فيها كافة الأسلحة، تطور مفاهيم المواجهة، وتنتقل من رد الفعل إلى الفعل، وتحاول وضع خطط خرق للحدود التي فرضها العدو، وخرق خطوطه الحمراء، وتحضر إدخال أسلحة جديدة على أرض المعركة.
من المفضل ومعركة تحرير فلسطين النهائية تقترب، وضع خطط تأخذ في عين الاعتبار محاولات سقوط العدو، فما الذي تترقبه المقاومة في حال انهيار العدو تحت ضربات المقاومة خصوصا إذا دخلت على خط المواجهة أسلحة مختلفة، ولم تكتفِ بإطلاق الصواريخ والهواوين من بعد؟ كما ينتظر دخول النشطاء في الأرض المحتلة ليلعبوا دورا لطالما انتظروه، وقد تكرست الحركة الشعبية في الضفة وال٤٨ بعفوية شبه مطلقة.
بالمقابل، يجب تحضير خطط تنسيق للمواجهة الميدانية، تخرج من آفاق الدفاع عن النفس، إلى مرحلة الهجوم الذي قد يكون نهائيا، ولربما شاركت فيه قوى إقليمية عسكرية، وبالتالي يصبح الطوق محكما على رقاب العدو الذي لن يعود بمقدوره الصمود، والبقاء محتلا.
المصدر: خاص