نظّم مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ضمن مختبر علم اجتماع المعرفة والثقافة، بحضور رئيس المركز البروفسور حسين أبو رضا، ومنسّق مختبر علم اجتماع المعرفة والثقافة في المركز البروفسور غسّان طه، ندوة علمية من بُعد عبر منصّة CRSS-UL-MS Teams بعنوان “الثقافة وأزمة المثقّف: قراءة سوسيولوجية في الإشكالات والمآلات”، وشارك فيها جمع كبير من أساتذة وطلاّب دراسات عليا في لبنان والخارج.
قدّم للندوة وأدارها عضو مختبر الدكتور منير مهنّا، موضّحًا أنّها تدور حول الأهمية الثقافية لعلم الاجتماع والأهمية الاجتماعية للثقافة، من خلال مقاربة أزمة المثقّف وحال الثقافة في ضوء ما يعتريها من تخبّط وتهافت نتاج تواطؤٍ مركّبٍ بين الفاعل السياسي المهيمن على الخطاب العام، وبين الفاعل الاقتصادي/المالي وسطوته التوجيهية في اختيار وتمويل الأعمال. واقع أثّر بحسب مهنّا في تراجع دور ومكانة المثقّف حيال ممارسة أدواره الريادية، وقدرته على صياغة رؤى فكرية، تُساهم في رسم معالم مشروع مجتمعي واضح التطلّعات، معتبراً أنّ أي عبث وتخريب للثقافة ولدور المثقّفين هو تخريب للمجتمع.
البروفسور حسين أبو رضا
تطرّق رئيس مركز الأبحاث إلى عملية البناء الفكري والثقافي للفاعل الاجتماعي والتي تبدأ من خلال مثقفي ومفكري المجتمع، من أجل رصد عملية التفاعل والتنشئة والتربية والاندماج داخل المنظومة الإنسانية العامة. وأضاف “هذه الدراسات يجب أن تكون علمية مرتكزة على النظريات الاجتماعية التي تراكمات عبر التاريخ، وضمن البنى والنظم الاجتماعية داخل الحقل المجتمعي. ومن خلال الانتقال من المعرفة باعتبارها صفة إنسانية عامة، إلى الثقافة باعتبارها الدرجة الراقية من هذه المعرفة”. وأشار بروفسور أبو رضا إلى أهمية دور المثقّف “في حركة التغيير المجتمعية”، من خلال إتقانه صراع الايديولوجيات مع تقنياتها المتطوّرة، وطرحه للمقاربات الثقافية المختلفة على مستوى الخطاب الثقافي الخاص”.
البروفسور عبد الله زيعور
قدّم مقاربة حول دور الأستاذ الجامعي المثقف في دائرة تأثيره، معتبراً “أنّ مهمته لا تنحصر بتلقين العلم وإنما في صناعة وصقل الشخصية الوطنية متعدّدة الأدوار للطالب”. ولفت إلى أنّ عمل المثقّف لا يخلو من تحدّيات أهمها ” عدم وجود حاضنة ثقافية و مجتمعية تحمل بذور التغيير داخل مجتمعاتنا، إضافة إلى هيمنة مناخات القمع والاستبداد السياسي على مساحات واسعة من الواقع العربي”، وبيّن أنّ “العرب هم أقل الشعوب قراءة واستهلاكاً للكتاب والورق في العالم” لذلك رأى ” أنّه من الطبيعي أن تحصل حالة القطيعة بين المثقف النقدي وبين نظامه السياسي الحاكم”، معتبراً أنّ دور المثقّف في العمل يجب أن ينتج عنه الدعوة إلى “قيام دولة المؤسسات والقانون والمؤسّسات المرتكزة على نظام سياسي عادل”، فيما رأى أنّ “النخب السياسية الحاكمة غالبًا ما تريد الإبقاء على الجمود وتعطّل المؤسّسات خدمة لحكم الشخص الواحد”.
وصنّف بروفسور زيعور المثقّفين بحسب أدوارهم: فمنهم المثقّف العضوي ومثقّف السلطة (أو مثقّف البلاط)، والمثقّف التغييري، والمثقّف المستقل، كما المثقّف المؤدلج، إضافة إلى المثقف المهادن والمثقف الحزبي.. وحدّد مجموعة من الأدوار المنوطة بالمثقّف، وتتراوح بين “مساهمته في نشر العلوم والمعارف الفكرية المتنوّعة”، ومواكبته لقضايا المجتمع الأكثر إثارة ومساسًا به، على أن يمارس النقد، ولتحقيق ذلك، يتطلّب الأمر ارتكازه على خلفية معرفية يحدّد بها المساحات الخاضعة للنقد، وتمكّنه من كشف الحقيقة وفضح المشاريع المتآمرة على المجتمع والأمة، شرط تحلّيه بالموضوعية والحيادية بعيدًا عن العصبية الضيّقة.
كما شدّد زيعور على الدور المفصلي للأستاذ الجامعي في صناعة وبلورة القيم، منوّهًا “أنه أن الأوان لفتح ملف العمل على تحصين الأستاذ الجامعي من الآثار السلبية التي لا تلتقي مع سلوكيات المجتمع”، لافتاً إلى أنّ “تفتيت الثقافات عملية موجّهة لتفتيت قضايا الأمّة، وعدم التمييز بين الجيّد والمسيء لمجتمعاتنا وحتى نكون ملعبًا تتقاذف فيه كرات الغرب على أرضنا”، وهذا برأي زيعور “ما يحدث عمليًا مع الأسف”.
البروفسورة إيمان أبو خليل
تناولت بروفسورة أبو خليل في مداخلتها “التطوّر التكنولوجي والصراع الإيديولوجي في المجتمعات العربية والإسلامية “بهدف الإضاءة على جانب مهم من استخدامات التطوّر التكنولوجي وتحدّياته من خلال الصراع الإيديولوجي الذي يقوم على إخضاع العالم لسياسة القيّمين عليها ولسلطاتهم الاقتصادية”، معتبرة “قضية الإيديولوجيا مثيرة للجدل إلى حد كبير، وهي تظهر أحياناً بشكل مستتر وخفي من خلال منطق الأفكار”، كما أنّها “تشكّل البنية التحتية للاقتصاد الجديد”، لذلك كانت “العامل الأساسي في تطوير المجتمعات من حيث التحوّل الجذري الذي أحدثته في البنية الثقافية ككل” أمر اسهم برأي أبو خليل في تأقلم الشعوب مع الأوضاع الجديدة.
ولفتت إلى الأبعاد الكثيرة التي يحملها واقع التكنولوجيا، من حيث البناء المتكامل الذي يعكس إطارًا ثقافيًا، وحضاريًا واجتماعيًا في نشر ثقافة معيّنة تفرض قيمها ومفاهيمها وأيديولوجياتها على المجتمعات. بهدف ضبط السوك الإنساني مع ما يقتضيه النظام السياسي والاقتصادي العالمي الجديد”. وأشارت إلى أنّ “الهيمنة الفكرية والإيديولوجية لا تُمارَس فقط بواسطة محتوى الرسائل، وإنما بواسطة التقنية التي تحملها الرسالة وانعكاساتها الاجتماعية تختلف باختلاف الوسيط الحامل لها”.
واعتبرت بروفسورة أبو خليل “أنّ التكنولوجيا حجّمت إلى درجة كبيرة الإيديولوجيا، ومنحت الفرد المعاصر مساحة من الحرية يستطيع من خلالها تكوين قناعاته بنفسه، من دون تدخل طرف ثالث في صناعة هذه القناعات”، ورأت أنّ الطابع الإيديولوجي للشبكات الاجتماعية في سياق تحوّلات الواقع العربي والإسلامي، أصبح ناظمًا للعلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاتصالية، ومتحكّمًا فيها. إذ يحاولون استغلال أي وسيلة أو منصّة لتكون وسمًا لهويتهم، وهو أمر مرتبط بخصوصية مجتمع المعلومات”.
كما رأت أبو خليل “أنّ مواجهة التكتّل الرأسمالي الغربي قد أصبح شبه مستحيل بدون تكتّل عربي إسلامي، يسعى إلى إيجاد المزيد من التماسك بين السياسات العامة، ويعمل على استنفار كل الإمكانات المادّية والطاقات البشرية، بغية حماية اقتصادنا من التبعية، وثقافتنا من الوقوع فريسة الاختراق والاستلاب”.
الدكتورة زينب مروّة
تناولت د. مروّة المنظور النسوي كمدخل تحليلي يساعد على “توضيح الأمور ذات الصلة بواقع المرأة وأوضاعها، من خلال الكشف عن الإكراهات التي تؤدّي إلى اضطهادها والسيطرة عليها في المجتمع. كما بهدف الكشف عما يستحضر أشكال العنف والتمييز التي تتعرّض لها استجابةً لمنطق الضبط الاجتماعي المكّرس وفق منطق الأيديولوجيا الذكورية”. ووصّفت مروّة وضعية المرأة في مجتمعنا العربي بالوضعية المركّبة، كما رأت “أنّ المطالب النسوية تشتمل على مطالب المساواة مع الرجل في العمل والحقوق من منطلق الإصلاح القانوني، وعلى إنهاء أشكال التمييز القائمة ضد المرأة”، واعتبرت أنّ “المسألة الحقوقية / القانونية مع الوعي هما قطبا المطالب النسوية في مواجهة هيمنة ذكورية تفرض القوانين وتتحكّم بالسلطتين المعنوية والمادية “. ولفتت مروّة إلى “أنّ التحوّل المطلوب يحتاج الى إعادة نظر في الموقف من الرجال، فهم ليسوا جزءًا من المشكلة فحسب، بل أيضًا جزءًا من الحل”، مبيّنة “أنّ المجتمع يمارس آليات الضبط على الذكور والاناث معاً من خلال مورثاته وتقاليده والعادات السائدة فيه، وأنّ نظام السلطة الأبوية يعطي لمفهوم الذكورة جملة من الحقوق والامتيازات”.
خلصت الندوة بتعقيب رئيس مركز الأبحاث البروفسور أبو رضا الذي شكر جميع المشاركين والمنظّمين والحاضرين من طلاب وأساتذة جامعيين، معتبراً أنّ “أهمية هذه الندوة تكمن في طرح موضوع إشكالي بأبعاده المتعدّدة، فمفهوم المثقّف ما زال إشكالي الاتجاه، والخوض في فلك الثقافة يمكن أن يفتح مجالات كبيرة”، أمّا عن دور المثقّف ودور الأستاذ الجامعي، فرأي أبو رضا أنّ هناك الكثير من الإشكاليات الموجودة والمطروحة حولهما، وأنّه “لغاية اليوم، لا زال تعريف المثقّف مُبهمًا، من هو المُثقف؟” واعتبر أنّ “الثقافة الحقيقية هي الثقافة الثورية، الثقافة التغييرية، الثقافة التي تصدر من المجتمع لتغييره. هنا تندرج الثقافة، وليست الثقافة التقنية، وليست الثقافة التقليدية”. ورأى أنّه “كأي حركة أيديولوجية، المثقّف بين هلالين، فهو أيديولوجيا خاصّة، ومن أهم أهدافه تغيير المجتمع وتطويره”، مؤكّدًا أنّه “لا يُمكن مقاربة أزمة المثقّف في مجتمعاتنا إلاّ من خلال أزمة السلطة، فالسلطة هي التي تضع الثقافة”.
وبيّن رئيس مركز الأبحاث أنّ “الأيديولوجيا لا تتناقض مع العلم، بل هي جزء من إطار علم اجتماع المعرفة، وهي قائمة على العلم المعرفي، فليس كل أيديولوجيًا مغلقًا. الأيديولوجية ليست مقفلة، وإنّما هي مفتوحة، وهي جزء من التعريف الثقافي، وهي في حقيقة الأمر أحد مفاهيم الثقافة خاصّة داخل الاجتماعي”، لافتًا أنّه في “بيئتنا العربية والمجتمعية الإسلامية والعربية عمومًا، نُعاني من أزمة الثقافة وأزمة المُثقّف بين الأصالة التاريخية وبين التطلّع إلى المستقبل، إلاّ أنّ الأصالة التاريخية ليست سيئة بذاتها”.
وردّاً على سؤال عن مشاريع مركز الأبحاث، بيّن رئيس مركز الأبحاث بروفسور أبو رضا أنّ المشاريع هدفت وتهدف إلى فتح مسارات لطلاّبنا الأعزاء، وخاصّة طلاّب الدراسات العليا، للاطلاع والاحتكاك مع كل الأفكار المطروحة، لننفتح على فكر الآخر، أيّا كان هذا الآخر، ولنستمع إلى الاتجاهات المعرفية المختلفة بدون حواجز، وهو أمر يهمنا ونسعى إلى القيام به. وختم بالإشارة إلى أنّه لدينا مشاريع كثيرة ضمن مختبرات المركز العشر باختصاصاته المتعدّدة، ولكل من هذه المختبرات مشاريع وأهداف وندوات وورش عمل كبيرة بما يتناسب مع الطلاّب والأساتذة والمشرفين، وبالتالي مشروع مركز الأبحاث طموح ويندرج تحت مظلّة معهد العلوم الاجتماعية بفروعه الخمسة الموزّعة على الأراضي اللبنانية كافّة، والمنضوية ضمن مؤسّسة الوطن الكبرى الجامعة اللبنانية التي رفدت المثقّفين على المستوى المحلّي والإقليمي والعالمي.
المصدر: موقع المنار