ليست سقطة دونالد ترامب شبيهة بسقطات القلائل من أسلافه الرؤساء، الذين فشلوا في الوصول الى ولاية ثانية، لأنه حتى تحت وابل الخسارة ما زال يحلم بالبقاء على عرش البيت الأبيض، تحت شعارٍ خائبٍ بعنوان “أميركا أولاً”، وبأسلوب حكمٍ متكبِّرٍ متجبِّر، أضاف الى تاريخ أميركا صفحة داكنة، وهلَّل لرحيله أكثر من نصف الداخل وأكثر بكثير من نصف الخارج، هو الخارج عن المواثيق وناقض المعاهدات، والأكثر إساءة لأعراف الإتفاقيات الدولية.
وليس جو بايدن حمامة السلام الآتية بغصن زيتون، لمحو آثام الصقر الذي رحل، لأن كلا الرجلين من كلا الحزبين، وجهان لعملة أميركية واحدة، تطبعها الدولة العميقة، الرابضة على صدر العالم، من أسواق بورصة المال والإستثمار والتجارة والصناعة، الى صياغة القرارات خلف الأبواب المغلقة على غُرفٍ سوداء في البيت الأبيض.
وإذ يرحل ترامب وهو على خصومة مع روسيا وصلت الى حدود فرض العقوبات ووتَّرت العلاقات بين القُطبين، وبلغت مع الصين درجة العداء، يبرُز من بين حلفاء أميركا من لديهم أجنحة تُحلِّق خارج الفلك الآحادي للقطبين، وأبرزهم فرنسا وألمانيا، بحيث سارع كلٌ من الرئيس ماكرون والمستشارة ميركل الى تهنئة بايدن، وصرَّح ماكرون أن حلف الناتو آن له أن يُراعي أولويات أوروبا، بينما دعت ميركل الى تفعيل الإتفاق النووي مع إيران الذي نقضه ترامب، ويحاول بايدن إعادة إحيائه على أنقاض ترامب.
وكما اعترف بايدن أن شعار “أميركا أولاً” الذي رفعه ترامب، جعل أميركا وحيدة، فإن حرص ترامب على “الهيبة الشخصية” أفقد الولايات المتحدة هيبتها الكُلِّية، وبمقدار ما حصل من التباسات خلال وبعد العملية الإنتخابية القيصرية، بين السلطة الفيدرالية في البيت الأبيض والسلطات المحلِّية في الولايات، بمقدار ما بدَت أميركا كياناً سياسياً ومجتمعياً مُصطنعاً، وأنها كشريك سابق في زمن حُكم القُطبين، ليست بعيدة عن واقع تفكُّك الإتحاد السوفياتي السابق، سيما وأن هناك محاولات إنفصال حصلت، وكانت آخرها لولاية كاليفورنيا الديمقراطية عند فوز الجمهوري ترامب عام 2016.
وبصرف النظر عن تركيبة خمسة زائد واحد (أميركا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا، كدول عُظمى أزيدت إليها ألمانيا، فإن هذه الزيادة كانت وستبقى المؤشر على المُتغيرات في ميزان القوى، ليس على مستوى الإتفاق النووي مع إيران، بل على مستوى صناعة كل القرارات الدولية، ودول “الخمسة زائد واحد” مُرشحة للإزدياد مستقبلاً بأعضاء من مجموعة العشرين، لأن الأحادية قد كُسِرَت، والثنائية مرّ عليها الزمن، وكل دولة بمستوى ألمانيا واليابان والبرازيل، قادرة أن تكون شريكاً في حُكمِ العالم، بعد أن ثبُتت هشاشة النظام السياسي الأميركي الذي بدا في الإنتخابات الرئاسية مُشابهاً لما يحصل في انتخابات دول العالم الثالث التي تعتبرها أميركا دُولاً مارقة.
من مؤشرات التغيير الإلزامي في سياسة أميركا، أن جو بايدن العالِم بآلية التعاطي الداخلي والتعامل الخارجي بصفته نائب رئيس سابق لمدة ثماني سنوات، يٌدرِك أن العنجهية الفارغة التي انتهجها ترامب غير ذات قيمة، وكما الداخل قادر على التغيير في صناديق الإقتراع، فإن الخارج قادر أيضاً على نبذ كل مَن ينقُض المواثيق والأعراف الدولية، لا بل أن بايدن يدخل البيت الأبيض ضعيفاً، ليس فقط بسبب جائحة كورونا وتداعياتها الإقتصادية الكارثية ونسبة البطالة غير المسبوقة، بل لأن مصداقية أميركا سقطت في العالم، ولم تعُد هناك ثقة، بأن ما يُبرِمه رئيسٌ سيلتزم به الخلف بمنطق إستمرارية الحُكم، وعسى أن يكون بايدن قد اتَّعظ من تجربة ترامب وتعود أميركا الى رُشدها، قبل أن تدَّعي إرشاد الآخرين، لأن خصوم أميركا أقوى مما تعتقد دوائر صناعة القرار الأميركي..
المصدر: موقع المنار