صلح الحسن(ع) الخيار الأمثل
لعل من ابرز الاحداث التي حصلت في حياة الامام الحسن(ع) على المستوى السياسي، هو المهادنة او الموادعة التي جرت بينه وبين معاوية، باعتبارها حدثا كبيرا وخطيرا، كانت له انعكاساته وتداعياته الكبيرة.
وفِي هذا الحديث ساحاول بيان الاجواء والاسباب التي فرضت على الامام الحسن(ع) العزوف عن الحرب والقبول بالمهادنة، استنادا الى النصوص المنقولة عن الامام الحسن نفسه وعن باقي الأئمة المعصومين (ع) بعيدا عن التحليلات التي تاثرت بالاهواء والعصبيات الدينية والسياسية.
فقد ذكر المؤرخ المعروف باليعقوبي: انه بعدما بايع الناس الامام الحسن(ع) بثمانية عشر يوما، تحرك معاوية بستين الف مقاتل، وقيل بمئة الف، لغزو العراق وقتال الحسن(ع)، وبدأت الاحداث تتسارع والامور تتلاحق بصورة سريعة نحو التأزم الذي قد ينتهي بحرب كارثية، وكان لابد للامام الحسن(ع) من التصدي للخطر ورده ومواجهته بافضل الوسائل التي تحفظ الاهداف، وتحقن الدماء، وتحقق الأمن والاستقرار، وتصون جهود الانبياء والاولياء والشهداء وتضحياتهم، وتحمي الشيعة وتبعد خطر الابادة عنهم كما صرح الامام في اكثر من مناسبة.
لذلك وجد الامام (ع) نفسه امام ثلاث خيارات:
الاول: الاستسلام لارادة معاوية.
الثاني: الحرب وتحمل كل تداعياتها وويلاتها.
الثالث: الهدنة التي تحقن الدماء وتحفظ وحدة الامة.
اما خيار الاستسلام لمعاوية فلم يكن واردا في قاموس الامام(ع)، لانه يعني الهزيمة، واضفاء الشرعية على حكومة معاوية وسياساته وجرائمه بحق الدين والامة، وتضييع جهود الانبياء والاوصياء، والتفريط بدماء الشهداء وتضحياتهم، وهذا ما لا يمكن للامام الحسن(ع) ان يفعله باي حال من الاحوال، لانه الامام المعصوم المؤتمن على الدين والأمة وتراث الانبياء والاولياء والشهداء على مر التاريخ، ولا يمكن ان يفعل ما يضر بذلك او ما لا ينسجم مع الامانة التي يحملها.
واما خيار الحرب فان اللجوء الى مثل هذا الخيار يحتاج الى جيش يملك اسباب القوة عدة وعددا وخبرة وارادة وعزما وتصميما وبصيرة.. وهذه العناصر لم تكن متوافرة في جيش الامام الحسن(ع) وجنوده وقادته العسكريين، كما ظهر من خلال الكثير من الاحداث والمواقف الخيانية لبعض قادة هذا الجيش كعبيدالله بن العباس، الذي انحاز الى معاوية مع ثمانية الاف من المقاتلين، وكالكثير من رؤساء القبائل والزعامات السياسية النافذة في العراق بعدما اغراهم معاوية بالاموال والمناصب،
حتى انهم ضمنوا له ان يسلموه الحسن او ان يقتلوه قبل وصوله الى ميدان المواجهة، وعندما دعى الامام الحسن(ع) الناس للالتحاق بالمعسكرات لم يستجب له سوى عشرين رجلا في البداية، وبعدم بذلت محاولات حثيثة التحقت به جموع من الناس من اتجاهات وانتماءات وخلفيات واهواء مختلفة، شيعة، وخوارج، وشكاكون، وملحدون، ومتعصبون من اتباع الزعامات القبلية، وطامعون لكسب المغانم، واصحاب فتن وغيرهم، وهؤلاء ما لبثوا ان هجموا على الامام وارادوا قتله وضربوه ونهبوا تجهيزات الجيش وظهرت خياناتهم الكبرى له ، ولو ان الامام(ع) حارب بمثل هذا الجيش او بمن بقي مواليا له وهم القلة، لكانت الهزيمة حتمية والخسارة محققة، ولما بقي من خيار الأمة احدا، بل لم يبقى للاسلام ناع على حد تعبير الامام نفسه.
اما الخيار الثالث وهو الهدنة، فقد كان هو الخيار الافضل الذي التزمه الامام(ع) بشروطه بعدما ظهرت الخيانات وقلّ الناصر، حيث اشترط الامام(ع) في الهدنة امورا على معاوية يأمن من خلالها الناس على انفسهم واموالهم واعراضهم ومستقبل اولادهم، وتحفظ الدين، وتكشف للامة الحقائق، وتعري معاوية وتبرز خداعه ومكره وكيده، وتعرفهم بمن يضحي بنفسه من اجلهم، ومن يريد ان يضحي بهم لتحقيق شهواته ونزواته وطموحاته السياسية والسلطوية.
وعندما نعود الى النصوص الواردة عن الامام الحسن(ع) سنجد ان اهم الاسباب التي ذكرها للهدنة مع معاوية هي التالية:
اولا: قلة الأعوان والانصار المخلصين الصابرين الاوفياء المستعدين للتضحية، يقول(ع) في احدى رسائله لمعاوية: (والله لو وجدت صابرين عارفين بحقي غير منكرين ما سلمت لك، ولا اعطيتك ما تريد..).
وعندما علم بقدوم جيش معاوية خطب في الناس في مسجد الكوفة فقال : لئن قام إلي منكم عصبة بقلوب صافية، ونيات مخلصة، لا يكون فيها شوب نفاق، ولا نية افتراق لأجاهدن بالسيف قدما قدما ولأضيقن من السيوف جوانبها، ومن الرماح أطرافها، ومن الخيل سنابكها فتكلموا رحمكم الله.
فكأنما ألجموا بلجام الصمت عن إجابة الدعوة إلا عشرون رجلا..
ثانيا: صلاح الامة، والحفاظ على وجودها وبقائها ووحدتها، وحقن دمائها، وقطع دابرالفتنة بين المسلمين، وهو ما اشار اليه الامام (ع) في العديد من النصوص المروية عنه.
فقد خطب الامام(ع) بعد توقيع المهادنة فقال(ع): أيها الناس إن أكيس الكيس التقي، وأحمق الحمق الفجور، وإنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس رجلا جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وجدتموه غيري، وغير أخي الحسين عليه السلام، وقد علمتم أن الله هداكم بجدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة وأعزكم بعد الذلة وكثركم بعد القلة، وأن معاوية نازعني حقا هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأمة، وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني، وتحاربوا من حاربني فرأيت أن أسالم لمعاوية، وأضع الحرب بيني وبينه، وقد بايعته ورأيت أن أحقن دماء المسلمين خير من سفكها ولا أريد بذلك إلا صلاحكم، وبقاءكم..
ثالثا: خذلان الامة له، والانكفاء عنه، والغدربه، والخيانة له، يقول الامام في خطبة بين فيها خذلان الناس له ولأبيه وجده(ص): وجعل الله النبي صلى الله عليه وآله في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعوانا، وكذلك أبي وأنا في سعة من الله حين خذلتنا هذه الأمة، وبايعوك يا معاوية، وإنما هي السنن والأمثال، يتبع بعضها بعضا.
رابعا:حقن دمه ودم اهل بيته ومن ابادة اصحابه وشيعته، ففي كلام له عليه السلام مع زيد بن وهب الجهني قال: (والله لأن آخذ من معاوية عهدا أحقن به دمي وآمن به في أهلي خير من أن يقتلوني…).
وفي رواية له عليه السلام: (إنما هادنت حقنا للدماء وصيانتها، واشفاقا على نفسي واهلي، والمخلصين من اصحابي).
وثمة دواع واسباب اخرى كثيرة فرضت على الامام المهادنة اشارت اليها روايات اخرى واردة عنه(ع) نكتفي هنا بذكر واحدة منها : فقد روى ابو سعيد عقيصا قال قلت للامام الحسن بن علي بن ابي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وان معاوية ضال باغ؟ فقال: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماما عليهم بعد أبي(ع) ؟ قلت بلى، قال: ألست الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله لي ولأخي الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت بلى، قال: فانا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماما من قبل الله تعالى ذكره لم يجب ان يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ألا ترى الخضر(ع ) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى ( ) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضى؟ هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل..
المصدر: موقع قناة المنار