من يزور مكة المكرمة الآن، عبثاً يبحث عن الكثير من مساجدها التاريخية أو الأحياء التي تؤرخ لحظات مهمة في حياة نبي الإسلام (ص). آثار تعود للدولتَين العباسية والعثمانية، وأعمدة حُفرت بالخط العربي وحملت أسماء صحابة النبي، أحدها يُعتقد أنه يؤرخ لمعراج النبي إلى السماء بالبراق في ليلة القدر، وآخر يعود بناؤه إلى 500 سنة وقد بُني خلال العصر العثماني لتخليد ذكرى «الإسراء والمعراج». حولتها ـ للأعمدة ـ حفاراتُ مشروعِ توسعةِ المسجدِ الحرامِ الآليةُ إلى تراب، لاستيعاب الأعداد المتزايدة للحجاج، واعتبر مراقبون أنّ الاحتفاظ بالتراث لا يقف في طريق عمليات التوسعة.
وأضاءت حادثة سقوط الرافعة في الحرم المكي، العام الماضي، على مسلسل تدمير هوية المدينة المقدسة، وتساءل علماء وجمعيات إسلامية حول الجدوى من كثرة المشاريع الفاخرة والعملاقة في مكة المكرمة، التي تُهدِّد بطمس الهوية الدينية لها. 200 رافعة تحاصر المسجد الحرام «تقف كشاهد على الكارثة الأخيرة» بحسب مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، التي نقلت في تقرير، العام الماضي، عن المدير التنفيذي لـمؤسسة «أبحاث التراث الإسلامي» عرفان العلوي قوله: «ما الذي يمنع أن يحدث ما جرى مرة أخرى»، واصفاً تدمير المعالم التقليدية والمواقع التاريخية بأنه «يجري بتكلفة مدروسة».
ثمة غضب متصاعد من مشروع التوسعة الأكبر في تاريخ مكة، يبدو في حجم الاستياء في التصريحات والاعتراضات والكتب والأبحاث والمقالات التي لامت خدام الحرمَين الشريفَين على موجة التوسعة المستمرة، الجارفة لتراث مكة، حيث تهيمن على معالمها ناطحاتُ سحابٍ وفنادقُ ومطاعمُ لفاحشي الثراء. فندق مكة الملكي وبرج ساعته الذي يرتفع لـ600 متر عن الأرض، غطّى على القمم الوعرة التي كانت تلامس عين الرائي. هو المشروع الطامح للملك عبد الله بن عبد العزيز في بناء أحد أطول المباني في العالم، كأنه أتى من لاس فيغاس ليحط جنب الكعبة المشرفة، ويخطف الأنظار عنها، كما أشار مراقبون.
وكان الأمير السعودي المعارِض تركي بن بندر، قد شن هجوماً على حكام المملكة بسبب أعمال التوسعة، في حلقة بثها على قناته في موقع «يوتيوب» قبل وقوع الكارثة الدموية، واعتبر أن الهدف من المشاريع رفع أعداد الحجاج لزيادة إيرادات الدولة، متهماً الملك سلمان وأمراء مقربين منه بجني أموال طائلة من المشاريع، من خلال تعويضات حصلوا عليها على عقارات وأراضٍ كانت في طريق التوسعة في محيط المسجدين المكي والمدنيّ، على الرغم من أنهم استولوا عليها سابقاً.
«لقد حولوا المدينة التي ولد فيها النبي محمد إلى ما يشبه مدينة ديزني لاند» يقول الباحث البريطاني ضياء الدين ساردر لصحيفة «لوبوان» الفرنسية. ويعتبر ساردر أن «النظام الحاكم في السعودية قام تدريجياً بمحو كل آثار الماضي في مكة»، وهو يقول إنه كان شاهداً منذ السبعينيات على التدمير الممنهج لأقدم وأقدس الأماكن الإسلامية. وبحسب الصحيفة الفرنسية، اختفى منزل السيدة خديجة، أولى زوجات الرسول، بعد أن تم اكتشاف آثار هذا المنزل في العام 1989، أثناء القيام بأشغال تهيئة المنطقة، ولكن تم طمسها لفسح المجال لبناء دورات مياه عمومية.
ومنذ أن بدأت رحلة «تدمير مكة» كما يصفها مراقبون في منتصف التسعينيات، «أكثر من 95 في المئة من المباني التي يتجاوز عمرها الألف سنة، قد تم تدميرها» . هذا «التطهير المعماري» تم بموافقة رجال الدين في المملكة بحسب «لوبوان»، حيث يعتبر «زعماء المذهب الوهابي الذي يسيطر على مكة والمدينة، أن هذه الأماكن تصرف الناس عن العبادة وتوحيد الله»، ويعتبرون أن المكان الوحيد الذي يجب المحافظة عليه هو الكعبة التي تتوسط المسجد الكبير في مكة. ويتهم مراقبون زاروا مكة، حكام السعودية بكره المواقع التاريخية الإسلامية.
فبحسب صحيفة «الاندبندت» البريطانية، يعطي رجال الدين المتشددون «شرعية» لعمليات التوسعة، اذ يحرمون «تقديس» الأماكن، ويعتبرون أنّ الوقوف أمام المنزل الذي ولد فيه الرسول الكريم، والذي أغلق مؤخراً، للتأثر بالرمزية التاريخية والدينية لهذا المكان، هو في حد ذاته شرك! وهو ما جاء في بيان للسلطات السعودية اعتبر أنه «ليس هناك من دليلٍ قاطع على مولد النبي محمد في هذا الموقع، ومن ثمّ يحرّم تخصيص هذا المكان للصلاة أو للدعاء أو للحصول على البركة».
وفي هذا الإطار، ضرب تقرير نشره موقع مجلة «فورين بوليسي» في أيلول العام الماضي مثلاً بقلعة «أجياد» المترامية الأطراف، والتي بنيت في العهد العثماني، والتي «كانت حصناً لأكثر من 200 عام». وقد تمت إزالتها لإنشاء 11 برجاً سكنياً وفندق من فئة خمس نجوم وسوق تجاري ومواقف للسيارات تسع 1600 سيارة، وهو الأمر الذي أثار أزمة بين تركيا والسعودية في العام 2002، وصفها وزير الثقافة التركي بـ «المذبحة الثقافية». كما تم هدم أعمدة داخل المسجد الحرام يعود تاريخها إلى العصر العباسي، والكثير من علامات المواقع المهمة التقليدية لأنها تقع في مسار البناء. «لقد تم التخلص من كل شيء في مكة لإفساح المجال لزحف الفنادق الباذخة» يقول عرفان العلوي في حديث لصحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية الشهر الماضي، اعتبر فيه أنه «كان من المفترض أن تكون رحلة الحج متقشفة، وشعائرها بسيطة، لكنها تحولت إلى تجربة تشبه الرحلة إلى لاس فيغاس، ولا يمكن للحاج البسيط تحقيقها، وكأنها الأيام الأخيرة لمكة.
محو آثار النبي (ص)
في مكة، هُدِم البيت الذي وُلِد فيه النبي محمد (ص)في شعب بني هاشم على بعد خطوات من الحرم، وتم بناء مكتبة عليه ومُنع الحجاج من زيارته مؤخراً. وحجة السلطات السعودية كانت أنه لم يثبت لديها أن هذا المكان تحديداً هو الذي ولد فيه النبي. كما هدم بيت زوجة النبي محمد (ص)، السيدة خديجة بنت خويلد(ع)، في مقبرة «جنة المعلاة»، وحولها مقابر لعشرات الصحابة، ومئات القبور للتابعين لهم. وهدم كذلك البيت الذي ولدت فيه السيدة فاطمة الزهراء (ع)، بنت النبي، وبيت حمزة بن عبد المطلب عم النبي(ص)، وبيت الأرقم، وهو بيت كان يجتمع فيه الرسول سراً مع أصحابه، وحتى الآن، هدمت خلال أعمال التوسعة قبور الشهداء الواقعة في المعلى، وقبور الشهداء في بدر، ومكان العريش «التاريخي» الذي نصب للنبي (ص)، والبيت الذي ولد فيه الحسن والحسين (ع)، حفيدا النبي.
أما في المدينة المنورة، فقد أزيل بقيع الغرقد، وواجهت الحكومة السعودية ما تعتقد أنها شركيّة كالتبرك بقبور الأولياء والصالحين وتوجيه الدعاء إلى الله منها، فقامت بهدم القباب التي كانت مبنية في البقيع على قبور بعض الصحابة. فهدموا تلك القباب معتمدين على استنباطهم للأحاديث النبوية. ومن المعروف لدى علماء التاريخ أن التوسعة الأخيرة للمسجد النبوي قامت على كامل مساحة المدينة المنورة التي كانت في العهد النبوي. وقد ثار جدل قبل نحو 4 سنوات حول هدم مسجد الإمام علي العريضي، حفيد الإمام علي بن أبي طالب (ع)في المدينة، بسبب أنه قائم على قبره. أما المساجد السبعة التي تقع حول الخندق «غزوة الخندق» فقد أزيل أربعة منها وبقي ثلاثة.
المصدر: جريدة السفير