حلّ فيروس كورونا ضيفاً ثقيلاً على أكثر الدول، ليشكل ليس فقط أزمة صحية عالمية فحسب، بل أزمة إقتصادية كبرى لها أثر هائل على العالم. فعزل العديد من الدول عن بعضها البعض بعد اغلاق الحدود وتعليق العديد من الرحلات الجوية، كما فرض قيودًا على الملايين من البشر في الحجر الصّحيّ، بالإضافة إلى خسائر في الأرواح. وساهم في إقفال الجامعات والمدارس والأماكن العامة والمقامات الدينية والأنشطة الرياضية والمرافق السياحية والمطارات، فضلاً عن إقفال العديد من المصانع والشركات والمراكز التجارية…
ظهر فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينية، وسرعان ما انتشر في العديد من الدول. ولكنّ هذا الفيروس، وفقاً للتقارير الطبية سيكون مرحلياً، أو ربما سيكون أبعد من ذلك. بعيداً عن أسباب هذا الفيروس وأثره الإجتماعي والصحي وغيره على العالم، فإن السؤال المطروح هو: ما هو ظل فيروس كورونا على الإقتصاد العالمي؟
كان من المتوقع أن يرتفع معدل نمو الإقتصاد العالمي، المقدر بنحو 2,9% في عام 2019، إلى 3,3% في عام 2020 ثم يرتفع بدرجة طفيفة إلى 3,4% في عام 2021. ولكن بعد انتشار فيروس كورونا خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الإقتصاد العالمي لعام 2020 بحوالي 0.4% على الأقل. بمعنى أن ينمو الإقتصاد العالمي فقط بنسبة 0.5% عن العام السابق، مما يؤدي إلى خسائر تُقدر بنحو 2 تريليون دولار على الإقتصاد العالمي، ولكن هذه الأرقام قابلة للإرتفاع في حال استمر الفيروس لفترة أطول مما هو متوقع. وذلك في ظل التراجع الحاد في الطلب الكلي والإستهلاك والانفاق العام، عائدات السياحة، سلاسل التوريدات، قِطاع التصنيع العالمي والخدمات، حركة التِّجارة الدولية، تراجع أسعار النفط، وتدفقات الإستثمارات الاجنبية.
أما بالنسبة للصين. وعلى الرغم من رصد المصرف المركزي الصيني 173 مليار دولار لمواجهة فيروس كورونا. إلاّ إنّ السيناريو المرجح في الصين هو أن نرى تغيّرا على شكل حرف V أي هبوط حاد في الأنشطة الإقتصادية على المدى القصير، يعقبه انتعاش سريع واحتواء تأثير الهبوط على الإقتصاد الصيني. يشير التقرير التقني للمنظمة التابعة للأمم المتحدة، أنّ انكماشاً بنسبة 2% في إنتاج الصين له آثار مضاعفة تظهر على مجمل انسياب الإقتصاد العالمي، وهو ما “تسبب في انخفاض يقدر بنحو 50 مليار دولار أمريكي” في التجارة بين الدول في شهر فبراير 2020. ويورد التقرير أنّ القطاعات الأكثر تضرراً من هذا الإنخفاض تشمل “صناعة الأدوات الدقيقة والآلات ومعدات السيارات وأجهزة الاتصالات.” بهذا الصدد قالت رئيسة قسم التجارة الدولية والسلع التابعة للأونكتاد، باميلا كوك-هاميلتون، إنّ من بين الاقتصادات الأكثر تضرراً هو الإتحاد الأوروبي (15.5 مليار دولار) والولايات المتحدة (5.8 مليار دولار) واليابان (5.2 مليار دولار). وكما توقع الإقتصادي في الأكاديمية الصينية للعلوم الإجتماعية، تشانج مينج، التي تمثل جزءاً من مجلس الدولة في بكين، أن ينخفض معدل النمو السنوي فى الصين إلى أقل من 5%(من يناير إلى مارس 2020)، وهي النسبة ربع السنوية للنمو فى الصين. ويعد هذا تباطؤاً حاداً مقارنةً بنمو بنسبة 6% سجلته البلاد فى الربع الأول من العام السابق.
وبما أنّ شركات عالمية كثيرة تعتمد على سلاسل الإنتاج الصينية، فإن عدم تعافي ثاني إقتصاد في العالم، ستكون له تداعيات في الخارج، وعندئذ، ستصبح الأزمة العالمية أوسع نطاقاً. لذلك سيؤدي الفيروس إلى تذبذب انسياب السياحة الصينية إلى الولايات المتحدة، وكذلك ستتأثر صادرات السلع الأمريكية إلى الصين. وتعتقد مؤسسة «جولدمان ساكس» أن فيروس كورونا السّريع الإنتشار سيؤدّي إلى إنخفاض بمعدل 0.4 نقطة مئوية من النّموّ السّنويّ فى الولايات المتحدة، خلال الربع الأول من عام 2020.
بالإضافة إلى ما تقدّم، إنّ شبح كورونا سيخيم على الدول العربية، ومع انهيار أسعار النفط، من المتوقع تراجع الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية بما لا يقلّ عن 42 مليار دولار هذا العام. حيث ستكون دول الخليج العربي على رأس قائمة المتضررين، وخاصة السعودية بعد تراجع الإستهلاك اليومي للصين من النفط الخام إلى حدود 20 بالمئة. لكن في المقابل ستستفيد الدول الكبرى المستوردة للنفط مثل الصين والهند وألمانيا من إنخفاض فواتير الطاقة.
وكذلك فإنّ إفريقيا لن تسلم من وباء كورونا، ومن المحتمل أن تبلغ خسائر أفريقيا جنوب الصحراء أربعة مليارات دولار، وذلك وفقا لتقديرات معهد التّنمية لما وراء البحار، ويعتبر هذا المبلغ كبيرًا بالنظر إلى الصعوبات التي تواجهها العديد من البلدان الأفريقية. ووفق الإتحاد الدّولي للنّقل الجويّ (إياتا)، بعد تعليق العديد من الرحلات، يمكن أن يكلف فيروس كورونا المستجد قطاع النّقل الجوي 113 مليار دولار هذا العام.
كما أن فيروس كورونا له أثر كبير على تراجع الأسواق المالية العالمية. ومن أجل ضمان الإستقرار في الأسواق الماليّة الأمريكيّة، أعلن الاحتياطي الفدرالي في نيويورك عن ضخّ 1.5 تريليون دولار من السّيولة. فيما يعتزم البنك المركزيّ الأوروبيّ إنفاق 120 مليار يورو إضافي هذا العام لشراء سندات حكوميّة وسندات شركات. وكذلك أعلن صندوق النّقد الدّوليّ منح تريليون دولار، لإقراض ومساعدة الدّول الأعضاء في مكافحة انتشار الفيروس.
ونتيجة إقفال العديد من الشّركات والمصانع، والرّكود في الحركة التّجاريّة العالميّة، تمّ تسريح العديد من الموظفين والعمال. حيث ذكرت منظمة العمل الدّوليّة في دراسة جديدة «الأزمة الاقتصادية الناجمة عن وباء كوفيد-19»، قد تزيد عدد العاطلين عن العمل في العالم ليصل إلى 25 مليونًا. كما أنّ تراجع التّوظيف يعني أيضاً خسائر كبيرة في دخل العاملين، وتُقدّر الدّراسة هذه الخسائر بين 860 مليار دولار أمريكيّ و3.4 تريليون دولار مع نهاية عام 2020. وسيترجم هذا إلى إنخفاض في إستهلاك السّلع والخدمات، وهذا بدوره يؤثّر على آفاق قطاع الأعمال وعلى الإقتصادات.
من الصّعب، الآن التّنبّؤ مدى تأثير فيروس كورونا على الإقتصاد العالميّ، لأنّ آثاره ستكون بعيدة المدى، ويبقى ذلك رهنًا بتطوّرات جهود منع انتشاره. لذلك يجب على الدّول أن تنفق في هذه المرحلة، وتتّخذ إجراءات وتدابير حاسمة على صعيد السّياسة الماليّة والنّقديّة، بالإضافة إلى الدّعم الماليّ للحدّ من مضاعفات فيروس كورونا على الإقتصاد العالميّ، وذلك من أجل تفادي وقوع إنهيار قد يُحدث أضرارًا أكبر من تلك المتوقّعة.
- الدكتور علي النمر، باحث وحائز على دكتوراه في الإدارة المالية
المصدر: موقع المنار