“ليك عمي .. الشهادات بعمرها ما ساوت الإنسان، الإنسان بقيمة شو بيقرأ وبيتعلم . لهيك بضل أقرأ حتى لو ما معي شهادة جامعية ..”
هذا ما تردد بذهني امام زاوية جلوسه، حين ذهبت اتأكد من ذلك الخبر الحزين.. قاله العم أبو طلال ذات مرة ، حين جلسنا متفيئين تحت ظل جسر الرئيس بدمشق، مع “كاسة المتة” والسجائر الحمراء القديمة، طبعا ما من طالب كتاب مر هناك إلا وصادف العم أبو طلال – أو قاطعه – وهو يقرأ واحدا من الكتب التي يعرضها ضمن زاويته الثَرية تحت فيء ذاك المكان.
كان رجلا ناهز الستين من العمر، هادىء الطباع متوازن في السلوك، وجهه يحكي حكايات عن زمن مضى من العجائب، لديه من المعلومات ما يتحدى بها أساتذة جامعيين، لو دخل مناظرة في الثقافة لربح دون عناء، يقضي وقته مع رواد زاويته مبتسما واعظا بمحبة وبطريقة لا يملّها السامع، يعرفه الغالبية وربما جميع أساتذة وطلاب الجامعة عموما، وكلية العلوم السياسية خاصة ..
هو نموذج ليس وحيدا بل ربما نادر من اشخاص محببين يتركون بصمة وذكرى جميلة وعبرة كبيرة.. يحدثك بلهجته التي أتى بها من منطقة السلمية في ريف حماه، صوته قريب من قلب مستمعيه، هو يعمل من أجل ولديه الشاب والصبية لإتمام الدراسة الجامعية. تحدث مرة عن ظروف منعته من إتمام دراسته، فآثر أن يعوض كل هذا بأبنائه وأن يفتح لهم الطريق ويعبّده بالعلم رغم المصاعب.
أبو طلال صاحب صنعة نادرة، لا يحترفها إلا قلّة نادرة، فاقتناء الكتب وبيعها بعد قراءة المعروض بغالبيته أمر ليس بالسهل.
في مكتبته التي أصبحت مَعْلَما من أركان المكان، يبقى يبحث لك عن طلبك من الكتب هنا وهناك حتى يجده ولو بعد أيام مهما كان الطلب صعبا.
أهداني مرة كتبا لغسان كنفاني وهي نادرة الوجود هذه الايام في دمشق، فهو ليس تاجرا فحسب بل معطاء ولا تشكل جلسته منذ الصباح الباكر حتى الغروب نوعا من التجارة، فهي بالنسبة له متعة حياة شاقّة كما وصفها، يقتات من رفوف الكتب فيها أمرين: الأول عِلماً ومعرفةً والثاني خبزا، ويجود بالامرين على غيره.
رجل لا يمكن الاكتفاء من الجلوس معه، اما غيابه اليوم فسيترك فراغا تحت كل فيء، ولو بكت الكتب على أنامله لما كان الأمر غريبا. فقد حفظه ظل المكان وأسطر الكتب وألِفَتهُ مواضع الكلمات.
وداعا يا صديق الكثيرين ومعلمهم.. لم تترك مكتبة من الكتب فقط بل مكتبة أخلاق وتضحية وحب للعلم.
المصدر: موقع المنار