ليست غريبة إقالة جون بولتون من إدارة دونالد ترامب، الرئيس الغريب الأطوار، الذي اعتاد تغيير وزرائه ومستشاريه كما يُغيِّر جواربه، لكن إعلان الإقالة بتغريدة على تويتر من ترامب، جاء نتيجة إنزعاجٍ من “صقرٍ” طفح الكيل من سياساته المُتشدِّدة التي لم تحصد الا الخيبات على كل الجبهات التي كان بولتون يُطالِب بإشعالها عسكرياً، من فنزويلا الى كوريا الشمالية ووصولاً الى إيران والعراق وسوريا وانتهاءً بفلسطين المحتلة، سواء في مطالبته بإعادة السيطرة الصهيونية على قطاع غزة، ووصولاً الى تأييد نتانياهو في خطوته الإنتحارية بضمّ غور الأردن الى سلطة الكيان المُحتلّ.
وبأفكاره الراديكالية الحاقدة المُجرِمة، يبدو جون بولتون وكأنه تلميذ السياسي السيء الذكر هنري كيسنجر، لكن هذا الأخير عاصر الإدارة الأميركية في زمن آحادية أميركا في الهيمنة على العالم، بحيث حَكَم كيسنجر – اليهودي الهارب مع أهله من ألمانيا النازية عام 1938 الى الولايات المتحدة- متصدراً صناعة القرار الأميركي، بصفته مستشار الأمن القومي من العام 1969 وحتى 1975 ، ثم تولى وزارة الخارجية ما بين العامين 1973 و 1977، لكن الخطير في مدرسة هنري كيسنجر، أنه أخطر مُنظِّر عدواني بين المحافظين الأميركيين المؤمنين بأن أميركا قادرة على التحكُّم بخارطة العالم حتى ولو عبر تمزيق خرائط الأوطان وإعادة ترسيم حدود أوطان جديدة، وما بين زمن كيسنجر وزمن بولتون مرّ على الإدارة الأميركية السيناتور المحافظ والشرير الراحل جون ماكين.
و”بولتون”، أحرقته سياسات دونالد ترامب الزئبقية الحائرة بين ممارسة قوَّة الصقور ثم الإرتداد بعد كل صفعة الى انتهاج وداعة الحمائم، ومع توالي الصفعات التي تلقَّتها الإدارة الأميركية في ولاية ترامب الأولى وبداية حملته الإنتخابية لولاية ثانية، كان لا بُدَّ له من إقالة الصقر الهرِم، الذي يعيش أوهام القوَّة في أميركا الهرِمة، التي انتهت آحادية سلطتها على العالم بوجود الصين وروسيا وانتفاضة دول الإتحاد الأوروبي على هيمنتها وفي طليعتها ألمانيا، التي اعتبرت مستشارتها أنجيلا ميركل، أن ترامب شخص غير موثوق ولا تُوضع اليَد في يَدِه.
كثيرة هي الملفات الخلافية بين بولتون ورئيسه:
– كان بولتون يدفع باتجاه عمل عسكري في فنزويلا لإسقاط الرئيس نيكولاس مادورو، وكان أيضاً وراء عملية الإنقلاب الفاشلة هناك، وأغفل أن روح الثورة البوليفارية الرافضة للهيمنة الأميركية ما زالت مُتَّقدة في قلوب الفنزويليين سواء كانوا مع سياسات مادورو الداخلية أو ضدَّها، وكان الفشل من نصيب خيار بولتون.
– كان المؤيِّد لعمل عسكري يلجم التجارب النووية لزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، لكن بعد لقائين بين ترامب وأون، رفضت كوريا الشمالية أي بحث في نشاطها النووي قبل رفع العقوبات عنها.
– كان المُحرِّض الأكبر على انسحاب أميركا من الإتفاق النووي الإيراني، وهو الذي كان يؤيد عملاً عسكرياً ضد إيران، فكانت الخيبة الكبرى للمدمرات الأميركية بمواجهة القدرات الدفاعية الإيرانية، والمخاطر الإقليمية التي قد تنجُم عن مواجهة ستشمل القواعد الأميركية في الخليج إضافة الى تدمير الكيان الصهيوني.
وذهب بولتون في تشدُّده الى معارضة أية مفاوضات غير مباشرة تسعى إليها أميركا مع إيران، عبر الرئيس السويسري أولاً وعبر الرئيس الفرنسي لاحقاً، من منطلق حرص فرنسا والإتحاد الأوروبي على الإتفاق النووي مع إيران والعلاقات الإقتصادية معها.
– إندفع بولتون في صهيونيته الى تأييد كل توجهات بنيامين نتانياهو، سواء في نقل السفارة الأميركية الى القدس، أو مباركة الهيمنة على الجولان السوري المحتل، ثم في دعم التوسُّع الإستيطاني اليهودي، والضغط من أجل عمل عسكري لإعادة إحتلال قطاع غزة ووصولاً الى الأطماع الجديدة في غور الأردن، وعزَّز من قوَّة بولتون في الإدارة الأميركية، التعاون الخليجي المُخزي والمتواطىء في كل ما يتعلق بالعقوبات التي تطال دول محور المقاومة، بعد فشل كل المغامرات العسكرية والإستخبارية الأميركية من فلسطين الى سوريا الى العراق ووصولاً الى اليمن.
– أخيراً وليس آخراً، جاءت ورطة سحب القوات الأميركية من أفغانستان، لِتُمرِّغ رأس الإدارة الأميركية وتُلزِمها بمباحثات سرِّية مع طالبان لضمان إنسحاب آمن لتلك القوات، وهو الخيار الذي اعتبره بولتون مُذلاً لأن أميركا تبدو وكأنها تندحر أمام من جاءت لِدَحرهم، وأمام إصرار ترامب على استكمال التواصل مع طالبان ومطالبة بولتون بعمل عسكري يُعِيد لأميركا هيبتها الساقطة، اختار ترامب إسقاط الصقر المُزعِج وتعمَّد الخلاص منه بتغريدة على تويتر، لأن زمن الصقور في أميركا قد انتهى…
المصدر: موقع المنار