أواخر العام ١٩٧٥، غزت اندونيسيا تيمور الشرقية. انعقد مجلس الأمن الدولي مطالباً اندونيسيا بالانسحاب من الإقليم دون نتيجة.. ثمانية أشهر استغرقتها الحرب بين اندونيسيا والجبهة الثورية، لتنتهي بضم الإقليم لاندونيسيا.. في مذكراته يشرح السفير الأميركي في الأمم المتحدة دانييل باتريك موينيهان الأسباب: “رغبت الولايات المتحدة بأن تنتهي الأمور كما انتهت، وعملت كي تنجز ذلك. رغبت الولايات المتحدة بأن تثبت للأمم المتحدة بأنها غير فعالة بشكل مطلق في أي من الاجراءات التي تتخذها.”
في كلمته التي ألقاها المندوب السوري أمام مجلس الأمن الأسبوع الماضي، قال بشار الجعفري إن القرار الأميركي بشأن الجولان المحتل إما أن يكون صفعة للعالم، أو تحدياً حقيقياً للأمم المتحدة. أي فارق بين الإثنين طالما أن الأمم المتحدة ينبغي أن تكون الضابط للأمن والسلم العالمي؟ هي الهيمنة الأميركية التي ترى أن حدودها بحدود العالم، هذا ما تؤكده مذكرات موينيهان، وما يثبته سلوك دونالد ترمب الرئيس الأميركي الأكثر تعبيراً عن عقلية هيمنة مستفحلة لطالما سعى نفاق الدبلوماسية الأميركية لتجميل قبحها.
في أول خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وصف ترمب الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ “الدولة المارقة “، المصطلح الذي أدخله الأميركيون في ثمانينيات القرن الماضي استخدم في أدبيات السياسات الخارجية الأميركية ضد الدول التي اشتغلت السياسات الأميركية على شيطنتها. المصطلح، الذي من المفترض أن يلتصق بالدول الخارجة عن القانون الدولي، حاضر أميركياً لوسم كل أعدائه، هي لعبة صياغة المصطلحات التي يلبسها الأميركيون تعريفاتهم الخاصة.
عام 1994 أوجد مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد بيل كلينتون، أنطوني لايك، تعريفاً للمصطلح يتلخص بعبارة واحدة ” المعاداة الواضحة والصريحة للولايات المتّحدة الأميركية”. ليخرج فيما بعد مدير مركز وودرو ويلسون الدولي، روبار ليتواك، بخلاصة توضح أنّ الدّولة المارقة “هي الدّولة الّتي تعتبرها الولايات المتّحدة مارقة”… ببساطة تحوّر الولايات المتحدة حقائق اللغة، لاغية المجتمع الدولي برمته،ماذا يفسر ذلك سوى العنجهية والاستكبار الأميركي.
أواخر تسعينيات القرن الماضي أقرّت الجمعية الأميركية للقانون الدولي بأن القانون الدولي هو أقل احتراماً في بلادها من أي وقت مضى. إلا أن توظيف قرارات القانون الدولي كانت مشغولاً بها من قبل الأميركيين لشيطنة الخارجين عن بيت طاعتها. يمسك الأميركيون بها رقاب دول العالم، أما الرقبة الأميركية فغير مسموح المس بها، هكذا جرأ المجتمع الدولي الإدارة الأميركية على تجاوزه والقفز عن كل معاييره، دون مساءلة.. ليتبيّن أن الأعراف الدولية المدرجة في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وقرارات محكمة العدل الدولية والمعاهدات وُجدت لتشتغل خارج النطاق الأميركي، إذ أن الولايات المتحدة تجد نفسها معفاة من كل ذلك، تستخدم هذا المنطق عندما يتيح لها إدانة أعدائها وتستغله كورقة تلوّح بها للمقربين منها لجرهم إلى حيث مصلحتها، وتتجاهله تماماً متى أرادت، دون مساءلة أو إدانة. فأي جدوى باتت تُرتجى من منظوماته؟
مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية عام ٢٠١٧، أخذت صورة الاستفحال المرعب للهيمنة الأميركية تبدو في أوضح صورها. خلال عامين قدمت مواقف ترمب بفظاظتها أوضح التجليات عن الإدارة الأميركية ومنطق تعاطيها في السياسة مع دول تُصنّف في خانة المعادية وحتى مع دول تعد صديقة كالسعودية أو الأوروبيين.. ليتبدى أن منطق الصداقة والتحالف ليس له مساحة في هذه السياسة، وحدها المصلحة أو التأييد المدفوع الثمن هي الحاكمة.
صفعة تلو أخرى علّمت بها الإدارة الأميركية على وجه المجتمع الدولي. باكورتها كان انسحاب واشنطن من معاهدة باريس للمناخ، بحجة أنها تلحق الضرر بالإقتصاد الأميركي، دون التوقف عند المصلحة العالمية في مواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري، والموقف هنا يعكس الجشع الأميركي الذي لطالما عاظم قدراته الاقتصادية على حساب حياة الآخرين. تلا ذلك انسحاب الأميركيين من مجلس حقوق الإنسان ولاحقاً من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، والمبرر كان تحيّز المنظومتين ضد “إسرائيل” النموذج المسخ المدعوم بالمطلق من الولايات المتحدة، ربما لأنه صورة عن نشوءها باحتلال استبدل شعباً بآخر. وفي خريف العام ٢٠١٨ خرج مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ليهدد المحكمة الجنائية الدولية إن مسّت تحقيقاتها أميركيين أو إسرائيليين، وذلك بعد فتح المحكمة تحقيقات عن جرائم إدارة جورج بوش في أفغانستان. وفي ربيع العام نفسه، كان الرئيس الأميركي أعلن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي الموقع بين مجموعة دول (٥+١) مع إيران، قراره استتبعه بفرض عقوبات على ايران وتهديد الدول بإجراءات عقابية في حال التفافها على هذه العقوبات.. لتقدم كل هذه الشواهد صوراً عن الهيمنة الأميركية المستفحلة في تجاوزها للعالم أجمع.
الوقاحة الأميركية سياسة باتت مكرسة، تبيع وتشتري، وتمنح ما لا تملك.. وفق هذا المنطق كان الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لكيان العدو، وفق المعايير نفسها أتى الاعلان عن الجولان المحتل كمنطقة خاضعة لسيطرة احتلال يلتقط أنفاسه من جراء دعم أميركي طوّع ملوك وأمراء المنطقة على الخضوع وتقديم التنازلات، وفق المنطق نفسه يخرج الحديث الأميركي عن خطة سلام ستطرح بعد تعديلات ستطال “ما كان يعتبر من الثوابت”… هي عقلية “أميركا العظمى” التي ينادي بها ترامب، وهو خنوع عالم لا يستعرض عضلاته إلا على من يقيم له اعتباراً. وهو ارتهان عوائل تحكم المنطقة بمنطق التوارث بعد ما غرسهم الاستعمار، فتكرست سياسات الارتهان، ولعله الخير الذي تنتظره منطقة باتت تكفر بمنطق الشرعية الدولية، وتقتنع يوم تلو آخر أن الغطرسة لا تردعها إلا قوة حق يحمله أهل القضية… يصنف الأميركيون أعدائهم كمارقين، يصفق لهم المرتهنون ويوقعون على تنازل بعد تنازل، ماذا عن الشارع؟ مشهد تونس كفيل بالإجابة: “دوماً مع القضية”.. أعلام فلسطين ومعها سوريا واليمن، هذا اليوم نبض الشارع العربي الذي لا يزال ينتعش كلما أحال علم الاحتلال إلى رماد، ليقول كلمته أن كل استفحال لهيمنة أميركا وخلفها “إسرائيل” لن يغير من واقع اصطفافاتهم وقناعاتهم وسلوكياتهم شيئاً.