الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم هي أول من يراه الانسان في حياته وأول من يتعلق به في هذا الكون، هي المخلوق الذي يعطي دون مقابل بكل ما لديه من قوة فيضحي ويضحي دون كلل او ملل وبدون حدود، فتضحيات الام تجاه عائلتها او اولادها هي كالحساب المفتوح، كالنهر المتدفق الغزير حيث يفيض الحنان والعطاء بلا توقف طالما ان في صدرها قلب ينبض وفي عروقها حياة.
لهذه الأم مكانة عظيمة سواء في الاعتبارات الاجتماعية أو الدينية وفي كل التعاليم السماوية لا سيما الاسلام المحمدي الاصيل، حيث جعل الله برّها من أوجب الواجبات في الدنيا وأعطى من يقوم بذلك اعلى الدرجات والمراتب في الآخرة، فالله أمر بوصل الصلة مع الأم بالحسنى وجعل ذلك فوق جميع الروابط الإنسانية الاخرى فهي أساس المجتمع وحجر الزاوية في بنائه، حيث قال تعالى في كتابه العزيز “وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”، فالأم هي صاحبة الدور الأعمق في بناء الاجيال وعلى يديها ترسم شخصية الأوطان، ولذلك قيل فيها “الام التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بشمالها”.
وهذه الام هي التي تحتضن بقدرة الخالق العظيم طفلها قبل ولادته بشهور فتضحي نحوه من دمها ولحمها وطاقاتها كعربون محبة وتفان تمهيدا لوصوله الى هذه الحياة وقبل ان يفتح عينيه في دنيا الواقع، ولعل ذلك هو احد اهم الامور التي كرم الله بها هذه الام وشرفها بها وجعل التضحية مرادفا لاسمها في كل المراحل، ويكفي انها تعطي للطفل وتغمره بحنانها حتى قبل ولادته، وبعد ذلك تمر الام بفترة جديدة من التضحية تكرس سموها وجهوزية للتفان الكامل وذلك يتجسد بوضوح من خلال ما تعانيه قبيل الولادة وخلال وضع الطفل، وعندها تبدأ رحلة العمر الطويلة في التضحية اللامتناهية التي لا تتوقف إلا بقرار إلهي مبرم بإراحة الام ورفع المسؤولية عنها وتكريمها بالجنة، وما يدلل على ذلك قول رسول الله محمد بن عبد الله “الجنة تحت أقدام الأمهات”.
هذه الأم التي تشكل الفرد الأكثر أهمية في الأسرة بالنسبة لتربية الطفل، فهي المُدَرّسة والمعلمة الاولى وهي المربية والمشرفة والطبيبة والمغذية والحاضنة والرفيقة والصديقة وناشرة الضحكة على شفاه طفلها منذ ساعاته الاولى، لذلك لا نقاش في المقولة الشهيرة إن “صلحت الأم صلح المجتمع”، فهي التي تأخذ ويقع على عاتقها النصيب الأكبر في تربية الأولاد، وذلك بسبب أن الأب يغيب عن المنزل لساعات طويلة من النهار، فتكون هي الأكثر مقابلة للأطفال، ولذلك نلاحظ أن ارتباط الأطفال بأمهم أكبر من ارتباطهم بأبيهم، وهذه الامور قد لا يختلف عليها اثنان، واليوم يضاف الى الأدوار الهامة للأم انها باتت الأم والمرأة العاملة التي تعمل لرفع مستوى عائلتها والمجتمع وتلعب دورها في تطوير أداء المجتمع ككل عبر تقديم مهاراتها وعلمها وخبراتها لخدمة الانسان في شتى المجالات.
وعند ذكرنا للام كصانعة للأجيال والمحرك الفعال في اسلوب وحياة المجتمعات، لا يمكن إلا ان نذكر ونقف وقفة تقدير امام أمهات الشهداء والجرحى والمقاومين، اللواتي صنعن أسلوبا استثنائيا للتضحية في سبيل حياة الامة والوطن والانسانية جمعاء، فهن قدمن فلذات أكبادهن كرمى لعيون الآخرين وفي سبيل الله وكي يحيا الانسان كريما عزيزا في ظل الجرائم التي يرتكبها أعداء الحق أيا كانت صورتهم وتسميتهم، وفي ذلك يتساوى العدو الاسرائيلي والعدو التكفيري وكل من يحاول انتهاك كل هذه القيم الانسانية الراقية، وأيا ما كتب في الام بشكل عامل وبالتحديد في امهات الشهداء لا يمكن ان نوفيهن حقوقهن، ومع ذلك نجد أم الشهيد في كل محطة تخرج علينا بخطابها الفولاذي المترفع عن الألم وفقدان الحبيب رافعة معنويات الشعوب ان لا مستحيل في مسيرة التضحية للوصول الى التحرر من قيود المحتلين والمعتدين.
وبهذا المقام، نشير الى كلام الأمين العام لحزب الله في حفل تأبين أم الشهداء الحاجة أم عماد مغنية في 12-10-2018 التي يمكن اعتبارها النموذج الساطع لأمهات المقاومين والجرحى والشهداء فهي قدمت كل ما لديها على خط الشهادة، حيث قال السيد نصر الله منطلقا بحديثه عن السيدة زينب بنت الامام علي(ع) “إستطاعت زينب عليها السلام أن تفعل كل الذي فعلته، أن يرسم كلامها خطاً ثابتاً طوال التاريخ، أن يصبح موقفها مغيراً لمعادلات الصراع والتاريخ، أن تصبح أنّاتها وكلماتها تبعث هذا الشعور القوي وهذا الصبر الجميل في قلوب النساء والأمهات طوال التاريخ لأنها كانت ابنة الشهداء وأم الشهداء وعمة الشهداء وأخوة الشهداء ومن قلب الحدث”، وتابع “ومن هذا الموقع كانت أم عماد مؤثرة في مسيرتنا وفي حركتنا وفي مقاومتنا وفي عوائل شهدائنا وفي كل هذا الصبر الجميل والعظيم الذي نراه في عوائل الشهداء وفي وجوه أمهات الشهداء، وهذا ما تسعى على ما أعرف الكثير من أمهات شهدائنا على أن تقوم به”.
وخاطب السيد نصر الله أمهات الشهداء بالقول “أنتن يا أمهات الشهداء ويا زوجات الشهداء ويا بنات الشهداء ويا عوائل الشهداء عموماً الأباء والأبناء عليكم جميعاً المسؤولية”، واضاف “لكن أقول للسيدات من أمهات وزوجات وبنات الشهداء أنتن مسؤولياتكن كبيرة جداً، لأنكن من الموقع الإنساني ومن الموقع العاطفي لما لكم من تأثير في هذه البيئة وفي هذا المجتمع وفي هذه الأجيال، أيضاً أنتن تتحملون هذه المسؤولية الزينبية، مواصلة الطريق، تبيين طريق الشهداء وخط الشهداء وأهداف الشهداء، وأحقية هذا النهج الذي يواجه اليوم ويعمل على تحديه وعلى محاصرته في كل الساحات وفي كل الميادين وهو أقوى من الحصار، وهو أقوى من الحديد لأنه ينتسب إلى مدرسة إنتصار الدم على السيف”.
المصدر: موقع المنار