دعا وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الاعمال جبران باسيل في اجتماع وزراء الخارجية والاقتصاد العرب لمناقشة جدول اعمال القمة التنموية في فندق “فينيسيا”، العرب الى احتضان لبنان، وقال: “احتضنوه ولا تتركوه، فهو لم يطعن يوماً احداً منكم ولم يعتد يوماً على اي مواطن عربي، بل كان ملجأً وحامياً وحافظاً لشعوبكم ومعمّراً لبلدانكم، ومستوعباً لتنوّع حضاراتكم وثقافاتكم ويبقى دوماً واحة المحبة لكم والضيافة بكم والتهليل لكم ولقدومكم”.
وقال الوزير باسيل في كلمته:
“الشكر للمملكة العربية السعودية على ترؤسها القمة السابقة وجهودها؛ والشكر لكلّ دولة حضرت على اي مستوى كان بالرغم من الظروف السيئة المحيطة بمنطقتنا وببلدنا ونحن مسؤولون عن جزءٍ منها؛ والأسف منا لأي دولةٍ لم تحضر لأننا كعرب لا نعرف ان نحافظ على بعضنا بل نحترف ابعاد بعضنا واضعاف انفسنا بخسارة بعضنا. الشكر لكم جميعاً لأنكم هنا لا زلتم تؤمنون بلبنان وبالجامعة العربية بالرغم من الفشل الذي يصيبنا.
فلنجعل من حضورنا واجتماعنا مناسبةً لاستنهاض انفسنا ولاعطاء رسالة امل بقدرتنا على الحياة والنهوض في مقابل محاولات انهائنا ومحوِ هويّتَنا وحضارتَنا وتنوّعَنا.
ما احوجنا اليوم لاستفاقةٍ سياسية اقتصادية تنمويّة تنشلنا من سُباتنا وترفعُ من قيمةِ الانسان العربي لتعيد له ثقته بذاته وترتقي بحياته لمستويات يستحقها، لأن لا هدف يعلو على الانسان، ولا شيء اغلى من حياة وعزةِ اهلنا ومواطنينا.
نحن نواجه تحديات كبيرة تبدأ من الحروب (في سوريا واليمن والعراق وليبيا)، وسوء التغذية (في الصومال والسودان)، والفقر في معظم بلداننا بالرغم من غناها، والجهل للحياة العصرية بالرغم من عِلمنا، اضافة الى التعصب والتطرّف والارهاب، ناهيك عن تعنيف المرأة وعدم منحها حقوقها الاساسية، وتعنيف الطفل الذي لا زلنا لا نفقه بكامل حقوقه. مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية كثيرة ونحن مسؤولون عن تعاظمِها، لأنه بدَل تكاتُفِنا لحلّها ترانا نختلف اكثرَ لتكبرَ اكثرَ، وبدلَ التضامن لنخفِّفَ آثارها ترانا نشنّ الحروب على بعضنا ليشتدّ بؤسَها.
والنتيجة هي ضربُ انسانِنا، اغلى ما عنّا؛ تهجيرٌ ونزوحٌ ولجوءٌ للملايين من ناسِنا، فنراها هائمة، ضائعة ومشرّدة في اصقاع الارض، كمن اخذ حفنة من تراب الارض (وهي من ذهب) ونثرها فوق الارض. هذا ما اصاب السوري (واليمني) واللبناني والفلسطيني والعراقي (والليبي) وغيره، يقفز على اوّل قارب نجاةٍ، او موتٍ، يبحر فيه في مغامرةٍ اسوأُ ما فيها هوَ افضلُ من واقعِ حياته. وها هو اللبناني رائدٌ في الهجرة، حوّلَها الى قصة نجاح ليعيل من بقيَ من اهلِه، فلَحِقنا بمن بقى وزِدنا على بؤسِه بؤس اللاجئ الفلسطيني والنازح السوري ليزيد بؤسَهم جميعاً.
حصل هذا في ظل الاحتلال وارستعباد، فهل يجوز ان يحصل ايضاً في ظل الاستقلال والحكم الوطني، وايّ حكم وطني هذا الذي يفضّل الاجنبي على الوطني ويُبدّي الغريب على القريب ويهجّر شعبه ليستبدلَه بآخر؟
نعم، لقد فشلنا في تحقيق ما تصبو اليه شعوبنا، او اقلّه في ابقائها في اوطانها، او على الاقلّ في اعادتها اليها، ولا زلنا لا نُبدي (نظّهر) الحسَّ مع بعضِنا ولا التضامنَ في حلِّ مشكلةٍ او مشاكلَ سبّبها بعضُنا لبعضِنا الآخر، دون ان يحملَ هذا البعض هَمَّ التفكيرِ حتّى بحلِّها، بل يكتفي بكلامٍ جميلٍ غيرَ مصحوبٍ بعملٍ جميل.
لم نحترم تجاه بعضِنا مبدأ تقاسم الاعباء ولا حتّى فكرة تقاسم الهموم، بل رَمَينا مشاكلَنا على بعضِنا، بل اكثر، رَمينا مشاكِلَنا على شعوبِنا في الداخل وحرمناهم من نِعَمِنا اعطيناه موارِدنا ومالَنا في مقابل تسليح لنقتل بعضَنا بدل َحمايةِ اوطاننا في وجهِ عدوّنا.
لست هنا لالقاء اللوم على بعضِنا، بل للتأّمل سوياً والتساؤل: الم يحن الوقت بعد لصحوةِ ضمير، لاستفاقةِ مشاعر، ولاحياء روح التضامن؟ دون ان أُغفل من اعطى واكرم وساعد وضحّى وبذل حتّى دماً في سبيل اخيه.
واذا كان لا سبيل بعد لهذه الصحوة السياسية ان تحصل على مستوى ما وصلنا اليه وكيفية الخروج منه، الا يجدر بنا ان نضع معاً خططاً مستقبلية، ولو نظريّة لتخفّف من ازماتنا، وترفع من مستوى حياتنا وتفتح الفرص امام شبابنا؟
اذا سبّبنا الحروب لبعضنا، الم يحن وقت اطفائها؟ الا يجب ان نفكّر بالعمران بدل الخراب؟ وهل يجوز ان نجازي ونعاقب من يفكّر باعادة الاعمار بدل ان نشجّعه ونساعده؟
وهل يجوز ان نقبلَ ان دولةً تختارُ من منّا يُسمح له بالازدهار، ومن لا ينصاع تُفرض عليه العقوبات لينهار؟ هكذا نصبح جميعاً، دولاً ومسؤولين، في قفص الاتهام وحجرة الاستعباد مع “وقف الاستعباد”
لا مستقبلَ من دون تنمية ولا أُفقَ من دون تطوّرٍ؛ فالحياة تمضي بسرعة، وان لم نستلحق انفسنا بسرعة قطار التطوّر والمعرفة، سنخسر ما تبقّى لدينا، وسيسهل اكثر اختراق مجتمعاتنا من قبل التطرّف والارهاب، من قبل العدو الاحادي المتماهي معه والمتربّص بنا، ولن يكون لنا حتماً ربيعاً عربياً بل شتاءً غربياً وسيستمّر قاسياً.
تعالوا معاً نضع رؤية اقتصادية عربية موحّدة، مبنية على مبدأ سياسي بعدم الاعتداء على بعضنا وعدم التدخّل بشؤونِ بعضِنا، هذا ان لم نُرد الدفاع عن بعضنا او صدّ عدوّنا المفترض ان يكون مشتركاً؛ مبدأ سياسي ضروري لكي نؤمّن الاستقرار السياسي اساس الازدهار الاقتصادي. كذلك نبني هذه الرؤية ايضاً على مبدأ ثقافي حضاري اجتماعي قائم على احترام اختلافنا وتقبّل تنوّعنا لنحفظ حقوقَ بعضِنا في الدين والفكر. مبدأ ثقافي ضروري لكي نؤمّن الحصانة التعدّدية في وجه التطرّف والاحاديّة.
هكذا نضع المخططات الاقتصادية والعمرانية على اساس عربي موحّد، دون ان نعتبر ان تكتلات بعضٍ منّا الاّ قوّة لكلِّنا بوحافز لنا بدل ان نرى فيها اصطفافاً او اضعافاً لبعضنا. وانا في ذلك لا اخفي توجّهاً (لديّ) بخلق مساحة اقتصادية مشرقية مشتركة تضم هذا الجزء من منطقتنا العربية، نجلب الازدهار لها من خلال اعادة اعمار سوريا والعراق واعادة النهوض بلبنان، وتقدّم الاردن ومصر وبناء فلسطين.
– كم جميلٌ مثلاً ان نخرجَ على شعوبنا، بسكّة حديد تربط بلداننا، بخط غازٍ يأخذ غاز لبنان الى العراق ونفط العراق الى لبنان، وبربط كهربائي منجز غير مقطّع، وبمرافئ تجعل المتوسط على حدود العراق والبحر الاحمر على حدود سوريا، وبسدودٍ من لبنان تغذّي الاردن وبمعامل من الاردن تغذّي لبنان، وباتفاقات تجارةٍ تفاضلية تلغي جشعنا على بعضنا وتفتح التكامل بيننا بعد ان تفتح الحدود دون حصار او رسوم.
– كم جميل ايضاً ان نخرج بخطّة اعادة النازحين واللاجئين الى ارضهم، بمعزل عن رغبة من هجّرهم، لأن من هجَّرَهم يريد ابقاءَهم، اما نحن المستقبلين لهم نريد عودتهم الكريمة ولا احد يمكن ان يمنعنا من ذلك اذا جعلناها كريمةً لهم، ومفيدة لاقتصاد بلدانهم.
– كم جميل اكثر لو نفتح الانتماء بين بلدانِنا لنحوّلَ نقمةَ المذهبية المهيمنة على بلدانِنا الى نعمة المواطنة لمشرقنا، بحضارته وتعدّديته.
ان هذا كلّه لا يمكن ان يكون ان تركنا فجواتٍ في داخلنا، وسوريا هي الفجوة الاكبر اليوم في مؤتمرنا، ونشعر بثقل فراغها بدل ان نشعر بخفّة وجودها.
سوريا يجب ان تعود الينا لنوقف الخسارةَ عن انفسِنا، قبل ان نوقفها عنها. سوريا يجب ان تكون في حضننا بدل ان نرميها في احضان الارهاب، دون ان ننتظر اذناً او سماحاً بعودتها، كي لا نسجّل على انفسنا عاراً تاريخياً بتعليق عضويتها بأمرٍ خارجي وباعادتها باذنٍ خارجي، وكي لا نضطر لاحقاً الى الاذن لمحاربة ارهاب او لمواجهة عدو او للحفاظ على استقلال وكي لا نسأل ماذا يبقى من عروبتنا ان هكذا كنّا. وكي لا اسألكم انا اليوم ما معنا جامعتنا واين الجمع ان نجحت فقط في الاقصاء والمقاطعة والتخفيض بدل التعزيز والتعليق وكي لا يسألنا اولادنا غداً لماذا حافظتم على هذه الجامعة ان كانت للتفرقة؟
يبقى ان لبنان مهما اخفق او اخطأ، يبقى هذا البلد الصغير الكبير، اخاً صغيراً لكم ورسالةً كبيرةً لكم. احتضنوه ولا تتركوه، فهو لم يطعن يوماً احداً منكم ولم يعتد يوماً على اي مواطن عربي، بل كان ملجأً وحامياً وحافظاً لشعوبكم ومعمّراً لبلدانكم، ومستوعباً لتنوّع حضاراتكم وثقافاتكم ويبقى دوماً واحة المحبة لكم والضيافة بكم والتهليل لكم ولقدومكم. احضنوه ولا تتركوه فهو منكم ولكم ولن يكون يوماً الا خيراً لكم.
المصدر: الوكالة الوطنية للاعلام