عام 1974 وفور خروج القوات البريطانية من البحرين، سن أمير البلاد يومها سُنة سيئة بسوء الغزو الذي جاء بقبيلته (آل خليفة) إلى سدة الحكم في البلاد، كان عنوانها “أمن الدولة”. أراد الأمير عيسى بن سلمان آل خليفة، وهو والد الملك الحالي، أن يشرّع القمع السياسي في البحرين، كان الحل قانون أمن الدولة الذي أطلق يد نظامه لسحق إضطرابات سياسية خرجت رداً على قراره بحل المجلس الوطني وتعليق الدستور. مثّلت حقبة أمن الدولة الفترة الأسوأ في مجال انتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب في تاريخ البلاد. سمح القانون للحكومة باعتقال وسجن الأفراد من دون محاكمة، كما تقرر بموجبه إنشاء محاكم أمن الدولة التي كانت تعتبر أحكامها نهائية وغير قابلة للاستئناف.
عقب وفاة عيسى بن سلمان آل خليفة، وتولي نجله “حمد” الحكم، وعد الأخير بعهد جديد، طارحاً مشروع “ميثاق العمل الوطني”. ولكسب ود الشارع لم يكن أمامه إلا أن يلجأ إلى شخصيات تحظى بثقة الشعب ولها كلمة مسموعة وسط الشارع البحريني، كانت البوصلة كبار علماء البحرين، معيداً الى الذاكرة زيارة والده إلى الحوزة العلمية في النجف الأشرف، بداية السبعينيات، إبان نيل البحرين استقلالها من بريطانيا ووقوع نزاع مع شاه ايران على هوية البحرين وقضية ضمّها إلى إيران ، فتقرر اجراء استفتاء شعبي يحدد هوية البلد، لهذا الغرض قصد أمير البحرين آنذاك كبار المرجعيات الدينية في النجف كالسيد محسن الحكيم طالباً حثّ البحرينيين على التصويت لصالح عروبة البلاد، كون غالبية البحرينيين هم الشيعة.
اختار حمد بن عيسى آل خليفة السيد علوي الغريفي، المجاز من كبار الطائفة الشيعية، نظراً لكلمته المسموعة ولما يحظى به من ثقة لدى عموم البحرينيين، زاره في منزله، وهناك على الخطاب الذي احتوى مجموعة من المطالب التي أكدت على حاكمية الدستور وعلى انتخاب برلمان كامل الصلاحيات، بعبارة: “أضم صوتي إلى صوتكم”. وتوجه إلى الحاضرين بالقول: “الدستور وضعه عيسى بن سلمان، وانا ابنه البار”.
بارك البحرينيون مشروع “الميثاق الوطني” بموافقتهم عليه بنسبة 98.4% في استفتاء شعبي شهدته البحرين. وأعلن حمد بذلك تحول بلاده من إمارة إلى مملكة دستورية. وخرج بوعوده إلى البحرينيين بالقول: “ستواكب الديمقراطية المملكة وتلتقي الإنجازات في حدث وطني كبير نصنع به معا بحول الله مستقبل البحرين وأيامنا الأجمل المقبلة”. وأضاف ملك البحرين: “نذرت نفسي لتحقيق تطلعاتكم كما تجلت في بنود الميثاق… ضمن برنامج عمل وطني يعلو بالبحرين ويجدد مسيرتها الديمقراطية ويعيد الحياة النيابية إليها في ظل الدستور والنظام الديمقراطي”.
قام الملك بزيارات ميدانية لمناطق متعددة في البحرين، أبرزها كانت زيارته التاريخية إلى جزيرة سترة التي اصطف الآلاف من أهلها لاستقباله، وللتعبير عن فرحهم بالعهد الجديد حمل الأهالي سيارة الملك… فكيف رد ملك البحرين الجميل لأهالي سترة ولعلماء البحرين؟ وما الذي قصده بأنه ابن والده البار؟
لم يكد يمر عام على الإعلان عن الميثاق والتصديق عليه حتى نكث الملك بعهده، في شباط/فبراير من العام التالي أقرت تعديلات دستورية من جانب واحد، وصدر دستور العام 2002 متضمناً بنوداً مخالفة للتطمينات التي كان قدمها الملك التي أعلن عنها في فترة تدشين الميثاق… فاتحاً الباب لدخول البحرين في أزمة دستورية وسياسية جديدة تفجرت في العام 2011… كانت تلك بدايات الأيام الجميلة التي وعد فيها ملك البحرين، البار بوالد حكم بلاده تحت ظل قانون الطوارئ لمدة 27 عاماً.
وفي العام 2011، عرفت جزيرة سترة كما باقي مناطق البحرين، كيف يرد ملك بلادهم الجميل. في بدايات حراك المتظاهرين السلميين، فُجعت ثاني أكبر الجزر البحرينية بأبناء ثلاثة لها استشهدوا في مجزرة “الخميس الدامي” التي ارتكبتها قوات النظام بحق المعتصمين أمام دوار اللؤلؤة… لم يكتِف الملك بذلك، ففي 15 آذار/مارس استباحت قواته جزيرة سترة لأيام ثلاث وكانت هدية الملك إلى أبناء المنطقة رأس الشهيد أحمد فرحان المفضوخ، ومنذ تلك الأيام حجزت سترة لنفسها اسم “عاصمة الثورة”. فسر الغضب العارم الذي ساد كافة جزيرة سترة، كل هذه الخيبة من ملك نكث بوعده وانقلب على وعوده ليكون صورة طبق الأصل عن أب نكل بشعبه.
ماذا عن العلماء؟ شكلت الانتهاكات للمقدسات الدينية أولى الصفعات الصادمة التي تلقاها الشارع البحريني وعلماؤه. عشرات المساجد تم هدمها، تلا ذلك حملات الاعتقال التي لم يسلم منها العلماء ولا رموز الشارع البحريني، أخذت تتدحرج كرة النار التي رماها النظام بوجه شعبه، طالت الإعتداء أضرحة مقدسة كمقام الصحابي صعصعة بن صوحان، وتجرأ قوات النظام على إسقاط رايات عاشوراء واستدعاء رافعيها، وطالت الإستدعاءات الخطباء الحسينيين ومساءلتهم على سرد الواقعة الكربلائية. الاعتداءات طالت أيضاً جامع الإمام الصادق(ع) الذي تقام به صلاة الجمعة المركزية في البحرين، لم يكتف النظام بذلك بل داهم منزل آية الله الشيخ عيسى قاسم، والذي يمثل أكبر مرجعية روحية في البلاد… تمادى النظام في انتهاكاته الدينية ليصل إلى حل المجلس الإسلامي العلمائي الذي مثل أعلى هيئة دينية للطائفة للمسلمين الشيعية في البحرين، كان المطلوب لكرة النار أن تكبر لتلتهم كل من لا يروق للسلطة.
هذه المرة، طالت كرة النار كبريات الجمعيات السياسية المعارضة في البحرين وجمعيتي التوعية والرسالة، والتي لطالما كان المس بها يعتبر من الخطوط الحمراء. الضوء الأخضر من الشقيقة السعودية، كان مدوياً هذه المرة تفضحه قرارات الجنون المتلاحقة والتي وصفها البحرينيون أنفسهم بأنها حرب تطال وجود طائفة بأكملها. الكلام البحريني لم يحرج النظام، بل أمعن في تأكيده من خلال استدعاء العلماء ومنع إقامة صلاة الجمعة المركزية في جامع الإمام الصادق (ع) في الدراز، ضارباً بعرض الحائط كل الإدانات الدولية والبيانات الداخلية.
يُسجل لملك البحرين، المدعوم من عم معمّر في منصب رئاسة الوزراء منذ ما يزيد عن 40 عاماً، أنهما كانا باريّن فعلاً بمن سبقهما إلى استباحة الحقوق والكرامات في البحرين، وإلى فرض قانون أمن الدولة الذي تطبقه البحرين اليوم بشكل غير معلن ضد كل من لا تستسيغه السلطة. بموجب العقلية نفسها التي حكمت البحرين أكثر من ربع قرن بقانون الطوارئ، تم اليوم ترحيل الناشطة الحقوقية زينب الخواجة عن البحرين، واعتقال الناشط نبيل رجب، في زنزانة انفرادية دون توجيه أي تهمة له، وإلى حل الجمعيات ومنع البحرينيين من إقامة أعظم شعائرهم الدينية.