ينطوي الكتاب الجديد، للباحث والكاتب اللبناني، الخبير في الحركات الإسلامية، رئيس “المركز الثقافي للحوار والدراسات”، الدكتور عبد الغني عماد، على دراسة، يستعرض فيها، تاريخ السلفية اللبنانية، وأهمّ الحركات التي حملت الفِكْر السلفيّ، وعبَّرت عنه.
هذه الدراسة الموسومة بـ”السلفية والسلفيون/ الهوية والمُغَايَرَة/ قراءة في التجربة اللبنانية”، هي دراسة صادرة حديثاً عن “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ”، في بيروت، (في طبعة أولى عام 2016) وهي من “سلسلة الدراسات الحضارية” التي يصدرها المركز.
وتتكوّن هذه الدراسة من: مقدّمة تتضمّن تعريفاً بالسلفية، بعنوان: “ما هي السّلفيّة؟”؛ ومن بابين/ قسمين اثنين: الباب الأول بعنوان: “السلفية والسلفيون: تَشَعُّب الدعوة وبروز التّيّارات”؛ والباب الثاني بعنوان: “السلفية والسّلفيون: إشكاليّة العبور من الدعوة إلى السّياسة – لبنان نموذجاً –”، وخاتمة، ويشير الكاتب في المقدمة موضحاً: “والواقع أنّ السّلفية بكل تياراتها لم تهبط علينا من فضاء معرفي مجهول، ولم تقتحم مجتمعاتنا من خارج بنيته الثقافية والاجتماعية، وهي لم تداهمنا بلا سياق تاريخي وسياسي، على الرغم من أن بعض النخب الفكرية والسياسية تعتبهرا غزوّاً فكرياً أتانا من كوكب غريب، فتتخذ منها مواقف مسبقة تتصل بصور نمطية جرى ويجري تسويقها على نطاق واسع، علماً أنها جزءأصيل من الموروث الفقهي والعقدي والفكري، لم يكن هامشيّاً في أي مرحلة؛ بل كان في كافة المراحل التاريخية تياراً أساسياً إلى جانب تيارات أخرى يتحصن بترسانة من الكتب والفتاوى والتنظير العقدي لفقهاء كبار عبر القرون والعصور الإسلامية، وقد ساجل من خلالها الاتجاهات والمذاهب الإسلامية الأخرى وحقق علهيا عدداً من الانتصارات سمحت ببقائه واستمراره.
ويلفت الكاتب إلى “أحد أبرز تجليات الهوية السلفية تتكون في النظر إلى “الآخر” ثقافياً وسياسياً واجتماعياً بوصفه عدوّاً أو خصماً أو مجال “تهديد”، وليس بوصفه مثيلاً أو تنوعاً يمكن أن يثري ويغني ويضيف إلى الذات قيماً وأبعاداً تجعلها ذات مرجعية تركيبية غير أحادية، اكثر تفهماً وتسامحاً وعقلانية، وهي الإشكالية نفسها معكوسة حيث “الآخر” في نظر الخطاب المعولم يختزل الحياة بالمنفعة والربح والمصالح، ويسجن الإنسان في بعده الاقتصادي، ويحول الجماعة إلى قطيع استهلاكي، وفي لحظة توحشه قسّم العالم إلى محور للشر حيث “الآخر”، ومحور للخير حيث قيمه هي المرجع.
ضمن هذا الإطار النظري يتألف مضمون هذا الكتاب الذي ينقسم إلى قسمين، في القسم الأول تحليل لنشأة وصعود الظاهرة السلفية اندرج في سبعة فصول، فيها يقرأ البعد المعرفي على ضوء البعد التاريخي وما رافقه من تطورات ونتج عنه من تيارات وتفرعات، في القسم الثاني قراءة ميكرو سوسيولوجية للظاهرة السلفية في مجتمع شديد التنوع طائفياً ومذهبياً وسياسياً، وقد مثل لبنان حالة حقلية مناسبة للدراسة، تتيح المجال لتتبع الظاهرة السلفية وتأثرها بالمحيط الذي نشأت فيه من جهة، وحجم التكيّف الذي نسجته مع هذا المحيط وتأثير ذلك على خصوصيتها ونظرتها تجاه الآخر بصفتها تعبيراً عن الهوية وتأكيداً للذات في مرحلة شديدة التجاذب والتحدي الهوياتي على مستوى الإقليم كله.
وقد اعتمدت الدراسة على تقنية تحليل المحتوى (Content analysis) لتحليل الخلفيات الفكرية والعقدية لهذه التيارات، كما تعتمد على تقنية “الملاحظة بالمشاركة”، حي عايش الباحث أنشطة بعض هذه الجماعات عن قرب، وتمكّن من الإطلاع على مواقفهم وطرق تفكيرهم وتعبيرهم عن معتقداتهم عن طريق الاحتكاك والتفاعل في فترات متتالية. تستفيد الدراسة أيضاً من كل الإنتاج الفكري المتاح والمنتج من قبل هذه التيارات، ومن كل المواد الاتصالية والبيانات والخطابات والمقابلات وغيرهامن مصادر المعلومات. والدراسة لم تكتف بالعرض والتحليل، وإنما سعت إلى تقديم قراءة نقدية من داخل الخطاب ومن خارجه، فضلاً عن رصدها لتطور الممارسة والحركة في سياق تكيفها مع الواقع اللبناني وانخراطها في الحياة السياسية وطريقة تفاعلها معه.
كما ويلفت الكاتب، أيضاً، بقوله: “هذا الكتاب يستكمل جهداً كنت قد بدأته في كتابي “الحركات الإسلامية في لبنان، إشكالية الدين والسياسة في مجتمع متنوع” الذي صدر عام 2006، حيث اعتمدت فيه على دراسات تحليلية ترصد تطور ونشأة كل تيارات الإسلام السياسي في لبنان على الصعيد الفكري والسياسي والاجتماعي، ومنها ما كان يدرس لأول مرة، وقد كان للتيارات السلفية مكان هام في الكتاب، إلا أنّ تطورات عدّة حصلت منذ ذلك الحين جعلت هذا الموضوع يحتل المزيد من الأهمية، وهذا الكتاب يقدم توثيقاً متكاملاً لدراسة التيارات السلفية في لبنان ومدخلاً سوسيولوجياً تحليلياً لفهمها، ومقاربة منهجية تتحرى الموضوعية في دراستها، وهي تيارات لم تحظ بالدراسة الجادة والموثقة؛ بل تعرضت بأشكالها المختلفة دائماً للاتهام من دون تدقيق، او للنقد الذي يصل إلى حدود التجريح، أو للإشادة والتفريط العاطفي والإنشائي، وبالتالي فهي لم تخضع للتحليل العلمي والأكاديمي الذي يعرض ويحلل وينقد بشكل موضوعي، لا يستهدف التجريح والإساءة ولا الإشادة الجوفاء. خاصة أن هذه التيارات، والدعوية منها بشكل خاص، تمارس تجربتها التنظيمية والسياسية في حقل شديد التنوع على المستويين الطائفي والمذهبي، دون الاستناد إلى تجارب سابقة يستفاد منها أو يبنى عليها، كما حدث مع حركات إسلامية أخرى. وهذا ما يجعل من دراسة الظاهرة السلفية في لبنان، تجربة تستحق العناء والتأمل، خاصة وأن آفاقها لا تزال مفتوحة ولا يمكن التنبؤ بسهولة في مساراتها.
وجاء في تمهيد الباب الأوّل: يستهدف هذا العمل البحثي دراسة تطور الظاهرة السلفية بتجلياتها المعاصرة كلها من الناحية النظرية، مع التركيز في الجانب الميداني منها على التجربة اللبنانية كحالة دراسية تتعلق برصد درجة التكيف الفكري والتنظيمي لدى هذه التيارات في مجتمعات شديدة التنوع والتعدد من الناحية الطائفية والمذهبية والسياسية. وحتى لا يقع هذا العمل البحثي في فخ المدوّنات التاريخية التقليدية، تطلب الأمر مستويين من المعالجة التحليلية والمنهجية. الأول: تمثل بتغليب المقاربة الدينامية للظاهرة الإسلامية السلفية، ودراستها بعيداً عن الجانب الستاتيكي، بحيث يمكن لهذه المقاربة أن تقدم فهماً أعمق للمسارات والتطورات والتحولات التي تعرضت لها هذه الحركات والتنظيمات كتعبيرات سياسية – دينية في علاقتها مع مختلف مكونات الاجتماع اللبناني ومحيطه لجهة اشتغال كل آليات التفاعل والصراع والتكامل والانقسام، أو العنف والمغالبة والعزلة.
والثاني تمثل بتحرير المقاربة التحليلية للظاهرة السلفية الإسلامية بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، من التنميط المسبق الذي أدى إلى تناولها كظاهرة مفصولة عن سياقات التطور السياسي والاجتماعي بل وحتى الإنساني حيث تم التعامل معها خارج قانون السببية ومنطق الوجود. وعليه، يصبح من الصعب قبول المقاربة الأحادية المنهجية لدراسة ظاهرة مركبة بتداخل فيها الثقافي والاجتماعي والسياسي بشكل مكثف. وبما أنه من الصعب فصل الموروث الثقافي بالعموم عن البيئة الاجتماعية فإن الضرورة المنهجية تفرض علينا الاجتهاد لتقديم مقاربات مركبة للظاهرة السلفية، لا بل حتى للظاهرة الإسلامية الحركية بشكل عام، تأخذ بالاعتبار تعاملها مع الواقع الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن كونها أحد أبرز تجليات الحراك المعرفي والتاريخي والإسلامي في توظيفه للنصوص والمرجعيات والوقائع التاريخية لخدمة واقع قائم شديد التعقيد والتغيّر، تعيش فيه وتتغذى من مكوناته تيارات وقوى عدّة، وهذا الواقع يترك دون شك تأثيراته على خطابها وبصماته على أدائها وبنيتها وعلى تفسيرها للنص أيضاً.
هذا التصور المنهجي المقترح لهذه الدراسة يهدف إلى فتح باب القراءة التفاعلية وكشف التداخل بين معطيات الظاهرة المدروسة، وهو ما يسعد على تقديم تفسيرات جديدة وتوليد تساؤلات علمية تختلف عن تلك التي تحيل الأمور إلى عامل وحيد بشكل دائم. كما إنّ هذا التصور المنهجي يمكنه أن يكون أكثر موضوعية مقدماً ما يتعلق بفهم الظاهرة السلفية الإسلامية وحراكها وتطورها وبنيتها وخطابها، متتبعاً تشعّب علاقاتها وصراعاتها، مراعياً في ذلك المقاربتين التزامنية والتعاقبية معاً، وهو في منهجيته التعددية هذه يسعى لتقديم إحدى المرجعيات الأساسية في معرفة ودراسة موضوعه بحرية وموضوعية، وهذا مالا يمكن أن يستغني عنه المؤرخ والسياسي والباحث المتابع للظاهرة الإسلامية السياسية بشكل عام.
وجاء في تمهيد الباب الثاني: “ليست الحالة السلفية حديثة النشأة في لبنان، وإن شهدت نمواً ملحوظاً في العقدين الأخيرين، وامتداداً من بعض المراكز المدينية والمسجدية إلى حواضر وتجمعات شعبية وريفية، فضلاً عن تطور أساليب عملها من جهود فردية يقوم بها دعاة بمفردهم إلى جهود جمعياتية ومؤسساتية تشرف عليها وتشترك في إدارتها طاقات شابة متنامية في الحقل التربوي والصحي والإعلامي، فضلاً عن المشايخ والدعاة المؤسسين لهذه الجمعيات. هذا مضافاً إلى بدايات تبلور خطاب سياسي كانت تفتقد إليه في ما سبق.
وتُظْهِر الخاتمة أنَّ: الرؤية السياسية السلفية اللبنانية في ملامحها الرئيسية تكونت نواتها “الحركية” على وقع الصدام مع الوجود السوري في لبنان مع بدايات الثمانينات، وكانت تكاليفه الكثير من القمع والاضطهاد والتهميش، وتكونت نواتها “السياسية” بعد خروجه على وقع الانقسامات والتجاذبات الطائفية والمذهبية، التي خيمت عليها شيعية سياسية متنامية، وعسكرة نموذجية انفرد بها حزب الله في تجربته التي تنطلق كغيرها من حقل الطائفية وليس من حقل الوطن، وقد ترتب على ذلك كله، أن تغلب الخطاب “الهوياتي” على “السياسي” في الرؤية السلفية اللبنانية، والذي راح يعرّف نفسه أكثر بالمغايرة مع الآخر.
ويضيف الكاتب أنه: ومن الإنصاف القول إن التجربة المتواضعة والقصيرة للحالة السلفية في حقل السياسة أثبتت إمكانيتها على “التلبنن”، بمعنى استيعاب الشروط الموضوعية والواقعية للساحة التي تتحرك فيها، فشاركت في الانتخابات قبل غيرها من السلفيات العربية، يوم كان مجرد التفكير بمثل هذا الأمر يدخل صاحبه بممارسات “كفرية”، وتحالفت السلفية اللبنانية مع قوى وتيارات مدنية، وأقامت مؤسسات تربوية ودعوية يغلب الاعتدال على خطابها.
وعلى الرغم من تكوّن ملامح عامة للرؤية السياسية، إلا أن السلفية اللبنانية بقيت تفتقر إلى خطاب متماسك يحدد موقفها من الآخر المختلف، من العيش المشترك وثقافة الشراكة الوطنية وآليات تجسدها وتطبيقها في النظام اللبناني، من الحريات العامة، من قضايا الولاء والانتماء والهوية الوطنية والنظام الطائفي، وهذه المسائل لا يمكن إنتاجها على أرضية التعدد الجمعياتي والتنظيمي السلفي؛ إذ سوف يتحصل عن هذا التعدد خطابات متعددة ومنفلتة، لذلك يرتبط الأمر بنجاح هذا الطيف السلفي اللبناني بإنتاج نموذج حركي يوحد الخطاب السياسي، وتشكيل إطار تنظيمي يجمع وينسق العمل الجمعياتي والتنظيمي، وهو ما تزال دونه عقبات على الرغم من المحاولات التي تمت حتى الآن.
يبقى أن نشير إلى أن الجيل الأول من الجهاديين السلفيين قد وجد طريقه إلى لبنان عبر بعض الخلايا، مستفيداً من إرث جهادي مقاوم لدى البيئة السنية اللبنانية، وهو اصطدام منذ التسعينات مع النظام الأمني السوري فقط، لكن الجيل الثاني من السلفيين الجهاديين ومنذ العام 2005 وجد نفسه وبشكل تدريجي في قلب اصطفاف وانقسام اتخذ صوراً طائفية ومذهبية ما وضعه مجدداً في صدام مع النظام الأمني اللبناني ومع حزب الله، فضلاً عن صراعه مع بقايا النظام السوري، وخاصة بعد اندلاع الثورة السورية. والواقع أن ضراوة الصراع التي يخوضها الجيل الثاني قادته إلى الصدام مع مكونات أساسية في البيئة السنية اللبنانية كتيار المستقبل على سبيل المثال، ورأت هذه المكونات خطورة كبيرة في تنامي مثل هذه الظاهرة من جهة، وتلمست توظيفاً سياسياً وأمنياً لها أو لبعضها من جهة أخرى، من خلال تكبير حجمها إعلامياً واستخدام بعض خلاياها ومجموعاتها لإحداث تصدعات أمنية تضعف قوى الاعتدال في بيئتها، وقد ظهر ذلك جلياً إثر تطبيق ما عرف بالخطة الأمنية في الشمال اللبناني، حيث اعتقل العديد من رموز هذا تلاير، ودخل الجيش اللبناني بقوة إلى عمق الأحياء الشعبية في طرابلس.
في المقابل وعلى الرغم من تأييد وتعاطف البيئة السنية مع الثورة السورية، فإن الساحة السنية لم تشهد سوى انخراط محدود في الفصائل السلفية الجهادية، وهو انخراط تعرض ولا يزال لحصار ومكافحة من داخل هذه البيئة ومرجعياتها السياسية والدينية، وقد جاءت استطلاعات الرأي، وأهمها الذي أجراه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى والذي كشف أن مؤيدي تنظيم الدولة لا تتجاوز نسبتهم 3 بالمئة في مصر وواحد بالمئة في لبنان و5 بالمئة في السعودية، لتؤكد أن هذه الظاهرة لا تحظى بتأييد علني كبير، وخاصة في لبنان. وأن المواقف وردود الأفعال ليست مقياساً دقيقاً لرصد الاتجاهات السياسية للمجموعات والجماعات.
وينهي عماد كتابه هذا بالقول: وخلاصة الأمر أن لبنان لم يكن ولن يكون معزولاً عن محيطه، ولا عن تأثيرات الجيوبوليتيك في الإقليم. وفي المحيط والإقليم اليوم عصبيات انفجرت، وهويات تضخمت حتى بدأت بالتشظي واستحالت إلى سياج لا يسمح للعقل بأن يخترقه، ولا لـ”الجماعة” بأن تخرج عن طوقه. الهويات المتشظية اليوم في العالم العربي أطاحت بالهوية الجامعة، وأصبحت هي محرك العقل الجمعي، وهي ما تجعله ذا نزعة أقلوية تتوجّس من المختلف، تشيطنه حيناً، وتكفره حيناً آخر، وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان تصور الهوية الفرعية كمحدد للخصوصية ومصدر غنى للمجتمع، بقدر ما تجعلها آلية لتأكيد الذات ونفي الآخر، وأداة لشد العصب والحشد الشعبوي الطائفي والمذهبي والإثني، تلك هي الإشكالية التي يتأسس في مناخها “الوعي الشقي”، حيث يقع الجميع في فخ ثقافة القطيع، تلك هي إشكالية الهيوية والمغايرة التي يتغذى في فضائها الخطاب الديني المسيّس بتياراته كلها.
المصدر: خاص